قصاصات

هذا القلق .. هذا الشاعر

إبراهيم اليوسف

لعل حالة القلق العارم التي يعاني منها – عادة – أي مبدع أصيل، نتيجة اندماغه في عوالم الأحاسيس، وإنتمائه إليها، هي العلامة المائزة لكل فنان أو شاعر تصطلي روحه في محرقة الإبداع على الدوام.

والشاعر الشاب محمد رشو في نصوصه التي يقدمها تحت عنوان ” أنتظر الهواء لأمرّ بك ” أحد الذين يستوقفون متلقيهم، ربما لأكثر من سبب: إنه واضح القلق، ولعل العنوان يتضمن التأكيد على مثل هذا الإفتراض البدئي، لا سيما أن المفردة الأولى ” أنتظر ” سرعان ما تمور بالحركة، منتزعة من سكونيتها من خلال حركة الهواء وما يتطلبه المرور أصلاً، فها هو يقول في مستهل مجموعته:

أنا الهواء

ما دمت شجرتي

فكيف أهدأ ..؟

وبهذا فإن الشاعر يصرح بإضطرابه وقلقه ما دام يطوف حول عوالم أنثى، قد تكون سلطانة نفسها التي يهدي إليها المجموعة دائماً، جازماً أن هذه الأنثى معروفة لدى متلقيه، ما دامت أنها تشكل تضاريس روحه أصلاً.

يعفي الشاعر نفسه من الإنخراط أو الإختلاف حول تجنيس النص الذي يكتبه، و لعل هذا ناجم عن قناعته بفحوى الخطاب الذي يقدمه دون أن ينتظر من أحد أي جواز مرور إلى عالمه هذا.

ثمة أنثى منتظرة على عتبة النص تدخل في تفاصيل رؤى الشاعر، تفرد لذاتها مساحة كبيرة كي تكون – ربما – أكثر من محور يحاوره النص ، و يخضع له ، بل ينطلق منه و يذوب فيه كراهب أسطوري :

قليلاً من كتفك الأخضر لأبكي عليه

قليلاً من تنفسك لأشبع رئتي

قليلاً من ريقك كيلا تجف أزهار الشفتين

كيلا تموت طيور الفم العطشى

منذ

صيف

سابق

سابق

إن إستفحال حالة الذوبان في هذا العالم الجميل، يجعل منه محض عاشق، لا يرى أي شيء حوله سوى أنثاه هذه:

مزهرية الكريستال الممتلئة بالزيزفون

دونما ارتياب

تبدو امرأة

مزهرية الكريستال الممتلئة بالزيزفون

امرأة وأعرفها

والآن

لماذا حين ألمسك

تشع في شعرك أزهار صفراء

وتصبح لك رائحة الزيزفون؟

ولعل الشاعر يلجأ لبناء مداميك نصه إلى موقف أو حكاية يستند إليها النمو الحقيقي للنص دون أن يميل إلى الإسترسال والبلاغة وسقط الكلام، بل إنه، وعلى عكس ذلك كله، يتوخى التكثيف المرهق أحياناً ليوقظ تفاصيله – هو – التي تستيقظ كوميض سريع ليوقظ بدوره الدفء في بعض الملامح القصصية التي تبرز على إمتداد الشريط اللغوي، بل الصورة الشعرية، أحياناً ما دامت المجموعة برمتها هي أصداء لحظات الشاعر، وحرائقه، وإن كانت تذكر بأصوات سابقة عليه، أحياناً من خلال إهداءاته إلى حامد بدرخان، ورياض الصالح الحسين، إضافة إلى آخرين لا يتذكرهم بكل تأكيد:

بعد وجهك بقليل

ما لا يرى:

الألم ضوء، الضوء صلاة،

الصلاة صمت إثنين لنافذة بيننا

ومؤكد، أن مثل هذه الملاحظة العاجلة وغيرها مما لم أذكره لا تقلل من تفاؤلي بالشاعر الذي يقدم لنا – دونما تكلف – أوراق إعتماده، ما دام يعرف كيف يضع الخطوة الأولى على دروب النص الأكثر صعوبة والأكثر إستسهالاً في آن معاً، فهو الأكثر صعوبة إذا كانت موهبة الشاعر أصيلة، بينما يغدو أكثر إستسهالاً في غياب مثل هذه الموهبة في هذا الزمن الذي بات يجمع التناقضات معاً .. ولكن رغم ذلك كله لا ضير من أن ننتظر من الشاعر أن يقدم ما هو أكثر إبداعاً فيما لو حثّ الخطا بالروح نفسها على درب الجمار التي لا تدر على المبدع الحقيقي غير التلظي في محراب القصيدة، دون هوادة.

جريدة تشرين

27-03-2001


المشهد الشعري السوري ينحسر والشعراء في المقاهي

خليل صويلح

يصعب وصف المشهد الشعري السوري الجديد، (ما بعد مطلع الألفية الثالثة)، بمعزل عن التحولات التي أصابت هذا المشهد، سواء لجهة التلقي أم لجهة الاهتمام النقدي الذي كان إلى وقت قريب، يواكب التجارب الجديدة. فالصفحات الثقافية في الصحف اليومية، ألغت كلياً، نشر القصائد، عدا قصائد المناسبات بالطبع، وصار بالكاد إمكان التقاط حساسية جديدة، تعبر عن ذائقة مختلفة، أو مغامرة الإطاحة بمنجز آخر. ذلك أن أصوات التسعينات وما بعدها، نشأت في جزر معزولة (كانت آخر محاولة بضعة أعداد من مجلة” ألف”، قبل أن تحتجب)، وهكذا لم تؤكد هذه الأصوات مقترحاً شعرياً نافراً أو بصمة شخصية، إنما انهمكت في تأكيد شرعيتها من داخل النسق، وليس التمرد عليه، وكأن معظم هؤلاء الشباب، اكتفوا بالحضور الشخصي في المقاهي والحانات، على حساب النص واشتغالاته الجمالية. فالمسافة جلية بين النص وصاحبه، أو أن هذه التجارب في أحسن أحوالها تعبير عن عطالة لغوية وشفوية عابرة، هي ترجيع لسكونية واكتفاء ذاتي، من دون مشاكسة، ونبرة عالية تحفر في خندق جديد، وتحرث في أرض بكر.

جيل مطلع الألفية الثالثة إذاً، اكتفى بكتابة اسمه في “سجل النفوس” الشعري، فيما غاب نصه، أو أن هذا الغياب هو التعبير الأمثل عن قحط التعبير، وقحط إنشاء جملة غير مكررة، تخرج من السياق إلى تخوم أخرى، تستدعي وقفة ما، حتى على سبيل معاينة هذا الهباء، اللغوي على نحو خاص.

عشرات المجموعات الشعرية الجديدة، لا تلفت انتباه أحد غير أصحابها، ثم تذهب إلى المقبرة باطمئنان، خصوصاً بعد انتشار ظاهرة طباعة “الريزو”، إذ يكتفي الشاعر الشاب بطباعة مئتي نسخة أو خمسمئة، على أبعد تقدير، على نفقته الخاصة، ليتم تداولها في دائرة ضيقة، فيما تتسلل بعض النسخ إلى الصحف من طريق أخبار ومتابعات سريعة، ثم تطوى الصفحة. وفي ظل غياب النقد والمكاشفة، بقيت هذه النصوص، أسيرة العزلة والإهمال، تحت يافطة أن الزمن السوري لم يعد شعرياً. وكذلك فإن الأصوات الجديدة خرجت من “دفيئة” اصطناعية، وليس من مشتل جمالي، يعبر عن فداحة الخسارة والاندحار الحياتي، وعلى ما في مثل هذا التوصيف من حقيقة. إلا أن هذا الواقع، لا يمنع مقاربة نصوص هذا الجيل، من زاوية نظر أخرى، وبمرآة تعكس غبش هذه الصورة وسرابها، وأسباب هشاشتها، وتشظي حضورها.

بين يديّ اليوم، ثلاث مجموعات شعرية جديدة، صدرت في فترة متقاربة، وهي تجارب أولى لأصحابها، تلفت في شكل ما، إلى صورة الشعر السوري الجديد، من موقع أنه لا يخضع اليوم لتيار جمالي واحد، وإنما لمشاتل شعرية مختلفة.

المجموعة الأولى بعنوان “عطش الرغبة” لميادة لبابيدي (دار كنعان)، وتحيل مباشرة إلى ما هو سيري، أو كتابة السيرة في اكتشاف الذات، عبر برزخ الجسد، والبوح العالي الذي لا ينصت إلى الفضيحة إلا بصفتها نداء استغاثة، وجسارة في المكاشفة والاحتدام بالآخر، من طريق تلمس هضاب محرّمة، وإعادة صوغها بصوت عال، يضعها في دوائر وخطوط معلنة، لأنثى تحصي خسائرها، في غياب الآخر وحضوره، وهما يتجولان معاً في “مجاهل القارة السادسة”. ولعل ميادة لبابيدي في احتداماتها الايروتيكية والحسية، لا تروم إنشاء نص خاص، بقدر اهتمامها في إفراغ شحنة تعبيرية ووجدانية، ترقد عميقاً في بئر عزلتها، في أقصى حالات البوح “حين تفشل في إحكام جنوني، لست قادراً على ارتجالي”. وهي تساوي بين الموت والحب في اندفاعاتها الحسية، ووقوفها في منطقة مكشوفة، تستدعي كل مفردات الوله “ما ذنبي أن حبك موجز، وأنا لا أحب الإيجاز فيك”، و “لأن حريتي ليس لها باب، أغلق شبابيكه ومات”.

هذه الانشغالات الذاتية، أنست الشاعرة، تشذيب نصها لفظياً، مما حوّل معظم قصائدها رسائل شخصية ومذكرات، تشي بعصيان أنثوي لا يقبل الجدل (حضورك غائب في مساحات الكلام). لكن هذه الملاحظات لا تلغي خصوصية “عطش الرغبة”، وجرأة جملتها التي تتسرب في فضاء مفتوح على الاحتمالات (موتنا أشبه بعكاز)، أو (لماذا لا نعود إلى النوافذ بعد انكسار الجهات)، وتتكثف القصيدة، حين تلامس الهواجس الذاتية (تحت الطاولة، خبأت أنوثتي، أنتظر أن تكتشف المزيد من نار جهنم ).

من جهة أخرى، يناوش محمد رشو في “عين رطبة” (دار ناشرون)، منطقة شعرية مشغولة بصرياً في الدرجة الأولى، وانتباهات سردية لافتة، تضع النص الشعري في مختبر التجريب اللغوي، وهو يقف على مسافة من عناصر هذا النص. وعلى رغم تماهيه مع منجز قصيدة الثمانينات في سورية، إلا أنه لا يعدم لمسة ابتكارية في توضيب الصورة الشعرية، والتأكيد على مفردات بيئة مهملة وغامضة، هي بيئة الشمال السوري، مما يمنح قصيدته نكهة عذبة، وقدرة على استبطان المهمل وإعادة توليفه على نحو آخر (يحلم بوقوع عتمة أشد، فربما يذوب ظله الوفي، وفياً في جسمه، فيرى امرأة مضيئة، ذاتها، المرأة المارقة في نقاهة اليوم السابع للأنفلونزا ).

يتخفف محمد رشو من ثقل الصورة الجاهزة، ويتوغل في الوصف والأسئلة في مكاشفات نصية، تتناهبها هواجس الإضافة من جهة، والارتكان إلى ما هو مشغول ومعاد من جهة أخرى. وهذا التمرد النسبي بقي في حدود مفارقة المألوف، من دون إعلان القطيعة الصريحة. ويتجلى الاختلاف في إعادة الاعتبار إلى المشهدية والتشكيل البصري، على شكل بورتريهات ملتقطة على عجل (عنف في الداخل، ولا أكثر من هذا الليل: ما من أحد ينام ولا ينام، ما من أحد يتأمل الباحة من أباجور في الطابق الثالث، لا، لا شيء سوى الكرسي، وتلفاز يترك مشغولاً ).

رائد وحش في “دم أبيض” (دار التكوين) يقع في حيرة البدايات الأولى: إغراء الإيقاع من جهة، والإفلات منه من جهة أخرى، مما يضع نصوصه في خلل إنشائي صريح، هو ترجيع لمخزون قراءات مكثفة، أكثر منه ملامسة لتجربة شخصية، تقترح مداها وفضاءها الخاصين، حتى أنه يقع أحياناً في غنائية مدرسية، تطيح بنبض القصيدة وتوقها إلى كسر ميكانيكية المبنى والمعنى، الأمر الذي يقوده إلى حقول شعرية، سبق أن حرثها آخرون. ويمضي منتشياً بهذا الهتاف، وهو لا يلتقط أنفاسه إلا حين يلتفت إلى هشاشته ككائن في أزقة الضواحي المهملة، ليقارب الأشياء والعناصر بعينين مفتوحتين على الشهوة، والولع بمباهج الحياة، بعيداً من لعنة العائلة: “حين يرن المنبّه كصلية رصاص، في أرجاء البيت، أنهض مثل المحكوم بالإعدام، أتحامل على رضوض الكابوس، وقوامي سارية سفينة نهبها القراصنة، مجاهداً في اجتياز الأرخبيل، بين غرفة النوم والحمّام، فالممر الذي كأنه بيانو ملغوم، أقل خطوة عليه، توقظ المسوخ الهاجعة”.

تنسرب قصائد “دم أبيض” في أقنومين، الأول بعنوان “صفائح الفضيحة”، والثاني “الكتابة بالجسد”. وفيما يقع القسم الأول تحت وطأة الغنائية، تتخلل القسم الثاني نبرة شخصية قائمة على النزق والتوق إلى خلاص فردي، وتمارين صعلكة في صخب المدينة، على رغم أنها تلفظه دونما اهتمام، فيكون التعويض في الكتابة ذاتها كنص مواز لحياة مشتهاة: “أكتب منتصب العاطفة”، و “بكاء المحبرة من الغرفة المجاورة وقد اندلقت على ورقي مرثاة”، وهو “فزّاعة محنّطة”، وفي جردة حساب نهائية “خسارة كاملة”.

جريدة الحياة

22-09-2005


محمد رشو في «عين رطبة»

العين بما لها من سيادة على الحواس والكينونة

رائد وحش

يقول محمد رشو في مستهله لقصيدة «زوربا صغيراً» من مجموعته الثانية «عين رطبة»: «عيناك مدهشتان فحسب، الاشياء فلا» ص 39» وبالنظر الى مدلول هذه العبارة، ومثيلاتها.

والى عنوان الكتاب، ومناخاته العامة، نجد انفسنا امام شاعر يطوّب للعين ملكية كاملة، ويجعل العالم عاديا، لامعنى له، ما لم تقع عليه «عين رطبة» ملأى بالحياة، لتبث فيه الروح، وبهذا لن تكون (العين) مجرد ناقل حسي للصور فقط، بل انها ستصبح صانعة للحدث الجمالي، هكذا إذاً العين هي سيدة الحواس، والجسد المثقف بغوايتها هو الجسد الذي يعيش بحق.

في كتاب رشو هذا، هناك شخص يتفاعل مع العالم عبر عينيه، وفعل المشاهدة، لا يقتصر على حيادية المراقبة، فعلى العكس، انه توغل في العالم والذات واللحظة، واختراق صريح، يجعل العين أكبر مساحة مما هي، و أكثر تعقيدا وتركيبا، فالحواس الأخرى كلها حاضرة في نصها، وهو نص يفوح بالروائح، ويضج بالاصوات، ويزدحم بالنكهات وأنواع الملامسات. إنها العين الخالقة والتي يقول عنها شربل داغر: «إن العين هي أكثر من أداة للرؤية، للكتابة، للتقويم، إذ هي حاصل جمعي وفردي عما نختزنه، بل هي أكبر من مكتبة ومن متحف: العين وديعة قيد العمل، وإنتاج قيد التجدد، وحساسية قيد التجربة»، هذا الشخص سينتظر في ساحة، وبينما يدّون ملاحظات عن الأشياء التي سيفعلها في المستقبل، يكتب المشهد التالي: «أكثر ما يخلفه بازار الاربعاء/ في الساحة. أكياس نايلون/ هامدة كحيوانات بليدة/ كيس بطاطا شيبس، لامع وزاهٍ، يركن قرب الصيدلية» ص31 أو يكتب المشهد التالي عن «المرضى» : «الملائكة عند الرأس/ العائلة في الممر/ أما المرضى فإنهم يتبولون على كرات النفتالين بمرحٍ» ص 56.

لا يقترب رشو من الدراما الشعرية، يبدو ان ثمة ما يخشاه، هو بفضل صناعة درامات صغيرة، تكتفي ببضع كلمات: «أيها الجسر/ ألا يؤلمك ظهرك» ص105، وهنا يدخل لعبة العنوان، فالعنوان هو اشارة اخرى لفك شيفرة الحالة، وفي القصيدة القصيرة المشار اليها، لن نفهم لِمَ سيتألم الجسر، ما لم نقرأ العنوان «وقد مرت القطارات في ليلة كثيرة».

يشتغل رشو على جملة متوترة، يريد لها ان تنزاح الى معان أخرى: «خذ ميدالياتك/ جهاز الهاتف لكي يوقظوك/ القطرة ايضا/ القطرة العينية/ ليزول الاحمرار عن الاخيلة» ص36. بمثل هذا الخلط بين معطيات العين والقطرة العينية، يصنع الشاعر لحظة خاصة، عادة ما يحاولها الشعراء، وبورخيس نبه الى هذه الطريقة، حين وقف متأملا بيت كارودسي الشهير: «الصمت الأخضر للحقول» حين أعطى اللون للصمت فيما هو في الحقيقة للحقول، وبهذه الضربة ذهب الى دلالة غير متوقعة.. لكن جملة رشو تصبح محض نثرية في امكنة اخرى، حيث يخفت فيها الوهج، وتتحول جملة سرد كما في قصيدة «الاشباح وهم يمرون وبجانب السيدة الانكليزية» مثلا، غير انه في مواضع مختلفة من الكتاب يطلق تلك القذائف التي تبدو وحدها قصائد، بما لها من مزايا اللمعة القوية التي تطرق بوابة الصعب والمتعذر، وتنبض برعشات قلوب شعراء كثيرين قضوا وهم يحثون المخيلة وراء هذه الجمل «وقت يكاد يلمس» ص84. «عميق شاسع كندمك على مالم تفعله» ص33. اضافة الى العناوين نفسها، وهي جاءت بالشعرية ذاتها :«سروة تهتز في مستوى النافذة» «اشواق تؤلم باطن اليد» «الورثة الرومانسيون لقمر قديم».. الخ.

اللغة هادئة، بعيدة عن التنميق، وتقاوم بلاغة المجاز، معطية الاهمية الأكبر لصناعة المشهد، وهي بالمناسبة لغة مدموغة بالحسية، لا تبالي إلا بجعل الكلمات مادة، يمكن ان نحسها بالقياس، بالوزن، فالكلمة تريد ان تكون جسدا، دون اهتمام بحالتها المعجمية، لكن المعنى يلتبس في بعض الاحايين، وتتشوش الدلالة.

استهل الشاعر كتابه بعبارة لألبارودي كامبوس: «الحياة التي نوّمت فيها استيقظت في نفسي»، ولأن الشعراء لا يعبثون في الافتتاحيات التي يضعونها لقصائدهم أو مجموعاتهم، فإن هذه العبارة تبدو وشاية بمضمر، فكامبوس، كما هو معروف، هو أحد أنداد فرناندو بيسوا، وهو الوحيد الذي اعتبر بين بدلاء شاعر البرتغال الكبير (الأكثر بيسوية من بيسوا نفسه). رشو مثل كامبوس الذي يقول في نشيده الحسوي «تزجية الوقت»: «أن احس كل الاشياء بجميع الطرق الممكنة/ أن أعيش الأشياء في كل الجهات/ أن أكون الشيء ذاته بجميع الصيغ الممكنة/في وقت واحد/ أن تتحقق في الانسانية جمعاء..» وهذا الإعلان الذي هو في الصميم تحديد لكينونة الشاعر عبر الزمن، هو ما يريد رشو تحقيقه لذاته الشعرية.

جريدة تشرين

12-07-2006


طبعة أولى…قصائد ملقاة في ازدحام التفاصيل

قيس مصطفى

يولي الشعراء الشباب وجوههم، شطر قصيدة النثر، باعتبارها مشروعاً أكثر انفتاحاً من أي مشروع آخر، وبالتالي فإن هذا المشروع الذي يعتبر مضماراً واسعاً للمناورة الشعرية، قادر على أن يستوعب فوضاهم وشغبهم.

ومن المعروف أن جدلاً واسعاً، قد يقوم، حول المصطلح (قصيدة النثر) أو الشعر المنثور كجنس أدبي، وهذا بدوره يثير جدلاً موازياً لحالة الجدل المترافقة بالمصطلح، إذا ما تم تصنيف قصائد هؤلاء الشباب، تحت عنوان قصيدة النثر وبعيداً عن إشكالية التصنيف والمصطلح، نجد أن ظاهرة اتجاه الشباب صوب هذه القصيدة يعتبر تجاوزاً لكل ما هو شعبي وتقليدي في وعي الشعر، وبالتحديد الوعي الشاب للشعر، الذي كانت قد مسته عند البعض، سلفية ما.

إنهم ومن جهة اختيارهم لهذه القصيدة، يعيدون ترتيب العالم بالشعر، وفق تصوراتهم بما يضمن جعل الشعر دائماً وأبداً,في حلقتي الاستمرارية والتطور من جهة نظر شابة، غير مخربة، على الأقل بالإيديولوجيا.

هكذا إذاً يعملون على ردم الهوة بين الواقع والحلم، ويفجرون اللغة، بما استطاعوا إليه سبيلاً من التجريب.

هنا وقفة مع المجموعة الأولى، لشاعر شاب، ذي تجربة مهمة. مقارنة بالشبابي السائد.

المجموعة هذه للشاعر محمد رشو. إذ أستطيع أن أقول إن القراءة السريعة التي غالباً ما نتعامل بها، مع مجموعات الشعراء الشباب، غير ناجعة أبداً في حالة هذا الشاعر، ومجموعته عين رطبة، لا بد إذاً من قراءة ثانية، وربما ثالثة إذ إن هذه المجموعة، على الأغلب، تستدعي الانتباه، كتجربة أولى، وتفصح عن شاعر مشاغب، وليس من اليسر أبداً التجوال معه، في رحلته السندبادية، صوب قصيدة، تجعل من اللغة حاجزاً، بينها وبين القارئ، لا باعتبار القصيدة تدخل في غموض ما، بل كونها لغة تتطلب حسابات ذهنية عالية، لإيجاد صيغة من صيغ الترابط، وشكل من أشكال العلاقات بين المفردات، التي تصنع صورة شعرية ما.

(جرح مضمد في الجبهة/وجه الذئب غامضاً في ليل الفناء الخلفي/الذئب نفسه/و…و/ثم خدر في شجرة التين).

الحسابات الذهنية التي تحدثت عنها,والتي تتطلبها قراءة عين رطبة، أفسرها,بأنها المياه التي أرادنا رشو أن نسبح فيها، من خلال اتجاهه صوب قصيدة، تفتح الباب على مصراعيه، على كل ما هو مهمل، كل ما هو منفي، مفكك والمهمل والمفكك هذا بحاجة إلى إعادة تجميع، وربط وهذا ما يقوم به القارئ، بافتراضه نوعياً، وحيادياً وقادراً على التعامل مع هذه القصائد كحالة معينة تتطلب جهداً في التذوق، خصوصاً أن الموسيقا داخلية تماماً الأمر الذي لا يريح قارئاً عادياً. من زاوية أخرى فإن المهمل والمنفي، بوصفه مخزوناً استراتيجياً للصرف طويل الأمد,يغدو ضرورة ملحة، في لحظة الشعر، اللحظة الاستثناء. بل إن الاشتغال على التفاصيل هو ما يبرر قصيدة نثر محمد رشو: (كان هنا.الكرسي/كغيره يكتفي بما يتركه الهواء/القليل. ما من تعرق/تخلفه عجيزة/ما من انحناءة/على المعدن، ما من ركبة تنثني/فتؤلم).

ولعل صلة الوصل التي تربط الشاعر بالتفاصيل، هي العين الرؤية والرؤيا، ولكن العين هنا لم تعد عضواً فحسب لقد تحولت إلى عدسة ذات تكبير عال جداً، مجهر، أو أي شيء من هذا القبيل. إن مطالعة لعناوين قصائده تدل على هذه الحالة البصرية المفعمة بالخصوصية (النقطة العمياء حيث ينظر رجل وحيد، عين لا تهتز، ترى من تحت قبعة فوتوغراف، ضباب، أنيريني) وإذا أضفنا إلى هذه العناوين، عنوان المجموعة، عين رطبة يكتمل المشهد. إذاً هي العين في كل حالاتها وتجلياتها من العماء والبكاء وغبش الرؤية إلى وضوحها، وكأن هذه الحالات، هي مراحل ولادة القصيدة، على أنه لا ينبغي لنا أن نتصور أن العين تحضر بينما تتغيب الحواس الأخرى فللأذن أيضاً حضورها. ما أستطيع أن أجزم به أن الشاعر يوظف حواسه كرادارات تتعقب الجمال أينما توارى:

(وفي العتمة/يكون ظل السروة في الباحة: السروة في الباحة/ظلك أنت هيكل غامق موحش لا بد من هواء لتدرك أنه شجرة حقاً، اليد البطيئة/ونفاذ الأنفاس العميقة لنكون نحن أنفاسنا).

جريدة الثورة

4-10-2006


يعمل على كشف الحياة اليومية بتناقضاتها عبر إعادة الاعتبار للحسي

الشاعر محمد رشو: الشاعر محصلة شعراء وهذا لا ينفي خصوصيته

ماهر منصور

عندما تقرأ محمد رشو، فستعرف جدوى اختراع يدعى مكنة التصوير الريزو، فربما لها وحدها سندين بالعرفان، ذات يوم، على مساهمتها في إطلاق مجموعته (عين رطبة)، البداية الإبداعية الواثقة له، والتي سنستطلع شيئاً من ملامحها في حوارنا التالي معه:

+ تبدو قصائد (عين رطبة) مجموعتك الشعرية الأولى، أمينة للعنوان الكبير الذي يضمها، فثمة عناية بصرية تغرق في التفاصيل فيها، كيف تقرأ هذا الفضاء البصري فيما تكتب، ألا تعتقد أن التفاصيل أحيانا تؤطر الخيال أم أنها فاتحة لخيال أوسع؟

++(عين رطبة)، أولاً: المجموعة الثانية لي، فقد سبق أن أصدرت مجموعتي (أنتظر الهواء لأمرّ بكِ) في عام 2001، ولكنها لم توزع إلا في حدود ضيقة، وهذا لا يعني أن (عين رطبة) وزعت كما ينبغي، بالعكس فأنا لم أطبع منها سوى 100 نسخة فقط و لم أوزعها جميعها بعد. ثانياً: ما اشتغل عليه هو محاولة لكشف الحياة اليومية بتناقضاتها عبر إعادة الاعتبار للحسي، الرائحة والأصوات والمرئيات، وسرد هذه الجزئيات بعيداً قدر الإمكان عن الفوتوكوبية، أو المحاكاة الساذجة أو الوصفية الجامدة. التفاصيل والجزئيات تكتنز السر، شريطة أن تُسرَد بعين لمّاحة ومونتاج ذكي، وعبرها نستطيع أن نكشف ما هو أعمق.

من اليسير أن أقول عن كائن ما إنه وحيد، أما شعرياً فقول ذلك يكون بتفكيك هذه الوحدة إلى مكوناتها، و بعبارة أكثر إيجازاً: أُحاول الولوج إلى داخل العالم من خارجه.

+ مشكلة الكتابات الأولى الوقوع في فخ ظلال القراءات السابقة…أستطيع أن ألمح بعضاً من تلك الظلال في جزء من قصائد المجموعة؟

++ كتابة الحياة اليومية شعرياً في سوريا تمتد من الماغوط و قبله وعبر شعراء السبعينات والثمانينات وإلى الآن. هذا مشروع شعري، وهذا ما يجمع ويشكل اتجاهاً بل اتجاهات، لكن هذه التجارب تحمل أيضاً ما يفارقها ويمايزها فنياً. وأيضاً لا نستطيع أن نفصل ما ينجز في داخل الشعر السوري عمّا ينجز خارجه، بصراحة لا أملك القدرة التنظيرية لأفرز الظلال تلك بكل موضوعية، كما لا أظن أن المسألة بلغت درجة الوقوع في الفخ. بالعموم الشاعر محصلة شعراء وهذا لا ينفي خصوصيته.

يذهلني شاعرٌ فرنسي مغمور لدرجة ما، ولد في 1903 هو جان فولاّن. وهو يكتب عن (الأشياء العارية بحدها المرهف) وممن تجنح إليهم ذائقتي في القراءة: غيفيك، برتولد بريخت، الشعر الأمريكي المعاصر عدا القراءات غير الشعرية: الروايات والموسيقا وخاصةً الملاحم الكردية القديمة ذات النبرة الحسية المتفردة.

+ ثمة مشهدية حيكت بعناية في بعض قصائد المجموعة، صورة مجازية تجتهد في بناءها، هل هي ملامح قصيدتك الأولى؟

++ المشهدية تقنية من تقنياتٍ لبناء القصيدة، والتقنية تنضج وتتعدد بقدر ما نميل إلى التجريب، وبقدر ما نحيد عن الركون إلى المكرّس.

+ كيف تفهم قصيدة النثر عبر ما أنجزته في (عين رطبة)؟

++ سأكون ضد حتى أكون مع. أنا ضد الغنائية وضد اللغوية وضد الرومانسية الفجة. وأنا مع محاولة كشف الواقع اليومي المعيش الذي من خلاله فقط أستطيع أن أطرح علاقة الواقع باللغة. أبتعد ما أمكن عن التدفقات الغنائية وعن الفصاحة والذهنيات. وما اشتغل عليه هو التكثيف وإقصاء الثرثرة، أنسنة الأشياء وتشييئ الإنسان. فالأشياء تزخر بطاقة عمياء مقلقة.

+ هل أخذ شعرك حقه في الإعلام؟

++لا، الشعر عموماً يعاني من الإقصاء، والإعلام عندنا إعلام الدراما والسياحة والحظيرة وفضح المؤامرات الكونية. الإعلام السوري غير معني بتاتاً بشيء اسمه: الشعر.

جريدة النور

16-10-2005


اشتهاءات الجسد والعزلة في شعرية محمد رشو

محمد نجار

إنّ الخط البياني للغة الشعرية، وفي البنية العامة للنص الشعري، يصعد ويهبط الشاعر في لغته الشعرية بشكل متوالٍ بين المحسوس والمجرد، بين المرئي واللامرئي، إذ يعدّ هذه الثنائية ثيمة أساسية ومن أهم الثيمات والثنائيات التي يشتغل عليها الشاعر في نصه الشعري، إضافة إلى ثنائيات أخرى ينبني عليها النص ولكنها تبدو أكثر هشاشة من الثنائية الأساسية.

إنّ هذه القراءة للنص الشعري كبناء يحتوي فيما يحتويه من رؤية جمالية وأخلاقية للعالم (وهي واحدة من المستويات التي لا تنتهي، إذ تتعدد وتختلف وتتباين القراءات تبعاً لمستوى القارىء) تسعى إلى استخلاص بعض السياقات الثقافية، والسيكولوجية، والسوسيولوجية التي يخفيها الدال الشعري في النصوص. وهي على الأغلب عبارة عن مدركات حسية لا تحتاج إلى كثيرٍ من الإحالات، إذ يقيم الشاعر علاقاته الحميمة مع بعض الأشياء والأمكنة وحتى بعض الكائنات في المستوى الأول، في حين تأتي علاقته مع الآخر(الأنثى، خاصة) علاقة أوديبية في كثيرٍ من الأحيان، في المستوى الثاني، يقول في الصفحة (11): من ديوان (عين رطبة).

السروة / السروة كثيفة ليلاً / وبنفسجية / السروة كثيفة دائماً / كي تلائم ما لا يعلنه ولدٌ يختبئ في الأعلى / يلتقط ما يلتقط من رائحة النساء / وهنَّ يحلبن الغنم أسفله.

في هذا النص يفصح الشاعر ـ عبر فتنة شعرية ـ عن مكنونات نفسية عميقة مكبوتة، أي أنه يدفعها من اللاوعي، من المسكوت عنه، إلى الوعي به، إلى المُعلن عنه، فتلك الدوال (السروة كثيفة ليلاً ودائماً)، ملائمة من حيث الوظيفة البنيوية لتحقيق فعل الاختباء، وبالتالي ممارسة طقوس أوديبية يهدف من ورائها إلى الولوج في تفاصيل أخرى غير التقاط (رائحة النساء) لا سيما أنهنَّ يحلبن الغنم في أسفل السروة، حيث تقوم المرأة بهذا الأداء الوظيفي باتخاذ أوضاع جسدية هي أقرب إلى فعل شهواني غريزي.

إنَّ فعل القراءة، كفعل العوامل الطبيعية، يتدخل في إنضاج النص، وإعادة تكوينه وتشكيله، لاسيما أن النص يبقى دون هذا الفعل كثمرةٍ فجة، بمعنى أننا نصبح عبر هذا الفعل(فعل القراءة) أمام نصوص غير منجزة ما دام القارىء يقوم بأداء هذه الوظيفة باستمرار.

في المستوى الأول من علاقة (الشاعر) بالأشياء والأمكنة وبعض الكائنات، يمكننا أن نحصي عدداً من الأمكنة، وهي متشابهة من حيث الصفات الفيزيقية، فالأمكنة ضيقة ومظلمة، باردة ومنعزلة، مثل (الكوريدور الداكن، داخل البيت البارد، نفق لعبور المشاة، الكهف، حدائق واطئة، الدهليز) فتلك الأمكنة لها طقوسها الاحتفالية ـ ما يميّزها من غيرها من الأمكنة ـ ذات الدلالات السلطوية الانعزالية، لا سيما أن كثيراً من تلك الأمكنة، ذات الأبعاد الفيزيقية التقليدية، تمنحنا قدرة على ممارسة فعل سلطوي تجاه الآخر، قائم على مفهوم (العزلة هي سلطة) وفق تعبير المركيز (دو ساد). نقرأ في الصفحة (8):

(العزلة من البرونز، العزلة بمفردها سيدة المكان). وفي تعبير آخر: (سلحفاة تنكمش داخل درعها ببطء). إضافة إلى ذلك تتكرر مفردة (الليل، العتمة) التي يؤدي فيها الإنسان وظائف إيحائية متباينة، وانشغالات سلوكية، تفوق المجهودات الاعتيادية، متمثلة بأداء فعل شهواني سادي يجعل من (الآخر / المرأة) موضوعاً لإشباع رغباته، بحيث تتحول في تلك اللحظة من كائن يحمل في ذاته رؤيتها الجمالية للعالم، عبر كينونة قائمة بذاتها، تُمارِس فعل المتعة باختيارها الحر، إلى موضوع لتلك الرؤية، يُمَارَس عليها وبها فعل المتعة تلك.

في مقاربة أولية للدلالات الشعرية، يكتشف القارىء أنه أمام انطولوجيا شعرية تجعل من عالم الرجولة، عالماً متوحداً مع ذاته، تكتنفه العتمة والسرّانية، تتوحد فيه جهات الرجل، ليُمارِس فعل الكلام في رمزية محضة، ويقابل هذا العالم، عالمٌ آخر هو عالم الأنوثة، الممتلىء صخباً، والمضيء والخصب أبداً.

في المستوى الثاني من حضور الآخر يبرز التصور الفرويدي له، وهو تصورٌ تتضح سماته ودلالاته دون الحفر في الطبقة السحيقة للنص، إذ إن القارىء لا يجد نفسه في متاهةٍ نصّية، حتى يخضع لجاذبية القراءة في فعل مستمر يتراكم على إثره كمٌ من المدلولات، ليُمسكَ بخيط دلالي، يقوده إلى مخرج من تلك المتاهة.

في نصوصٌ شبه متكررة، ينشغل الشاعر بهواجسه، من يد تظهر فجأة، فتخلق لديه حالة من التوجس والرُهاب في كل مرةٍ يحضر فيها الآخر طرفاً طارئاً يحتل ساحة شعوره، ليتحوّل وجود الآخر، جحيماً سارترياً بالنسبة إليه. نقرأ في الحالة الموصوفة من الديوان نفسه:

نتقدم في نفقٍ لعبور المشاة، فنخشى أحداً ما يأتي من خلفنا / نمرُّ تحت شجرةٍ كثيفةٍ أو جدارٍ في الليل، فنخشى أحداً ما يقفز علينا/ نرتدي الشرّ كقفازٍ يُستعمل لمرةٍ واحدة. (ص25)/نحيطُ أنفسنا بملائكةٍ ونبقى نخاف. (ص26)/لأنكَ الضيف، عينك لا تجفُّ على شبحٍ قادمٍ من الباب. (ص33)/يشرد ويقشِّر الفستق، ترهبه اليدُ تظهر فجأة من وراء الباب. (ص95)/يدٌ ستدعوه من وراء الباب، يدٌ فقط، بيضاء وشاحبة قليلاً، كم اليد مرعبةٌ في الليل. (ص96)

إنَّ الرؤية الشعرية للشاعر تتجه بجمالياتها اللغوية والفنية إلى استحضار هوامش وتفاصيل غريبة، لا تنشغل بها الذات إلا في حالة العطالة، رغبة منه في جذب القارىء إلى تلك الحالة، وإشراكه في لعبة القراءة، لكننا نفشل في هذه اللعبة، خاصة إذا كانت تلك نصوصاً تحمل معها شروط إنتاجها لحظة الكتابة، ففي نصٍ بعنوان (سنكون على ما يرام) تغدو القراءة سقيمة، لنصٍ سقيم، مهما تعددت القراءات لمثل هذا النص.

أكثر ما يخلفه بازار الأربعاء /في الساحة/ أكياس نايلون/هامدة كحيوانات بليدة /كيس بطاطا شيبس، لامعٌ وزاهٍ /يركن قرب باب الصيدلية/تدّون ملاحظاتٍ وأرقاماً عما ستفعله لاحقاً /تظنّ أنكَ تتهيأ للمستقبل./ طاهرٌ، لا مرئي، وربما لا شيء /موجودٌ ولا شيء يدل عليه، سوى ما تدونه عما ستفعله.

كأن هذه النصوص تحتاج إلى قراءاتٍ خاصة جداً، أو هي أقرب إلى طلاسم، لا يفهمها القارىء السلبي، أو هي نصوص أقرب إلى عمل بهلواني، يقفز فيه الشاعر من سياقٍ إلى آخر، ومن جنس أدبي إلى جنس آخر، كمثل هذا النص (صريرٌ في الفراغ) الذي يتعين في عنوانه، وفي متنه، كهلوسات لغوية تجعل من حالة القارىء، كمثل العنوان الذي يبدأ به النص، وفي نصٍ آخر، وهو أقرب إلى نصٍ ثقافي ـ إن صح التعبير ـ منه إلى الأجناس الأدبية التقليدية الأخرى، وفي عنوانه المثير(بورنو) يضعنا أمام مشاهد سلوكية غريزية تقوم بها كائنات، يختص فيها الذكر بأداء فعلٍ سادي تجاه الآخر/ الأنثى، بينما هي تتلوى على السرير، في إشارة واضحة إلى مازوخيتها الأزلية.

إن فعل القراءة ـ وهو فعل إنسانيٌ ـ شأنه شأن أفعال القيمة التي يأتيها الإنسان، ككائن أخلاقي، له رؤيته الجمالية، يماثل فعل الكتابة في علاقةٍ شائكة بين فعل القراءة وفعل الكتابة، يتحول فيهما هذا الفاعل الجمالي الوحيد من أداءٍ وظيفي إلى أداءٍ وظيفي آخر.

إننا في قراءتنا لهذا النتاج الشعري، أو لأيِّ نتاجٍ ثقافيّ آخر، نقوم بفعل سجالي لا يخرج عن كونه ترسيخاً لتلك العلاقة المتبادلة بين هذه الوظيفة أو تلك، كما أن النص يبقى خامداً، إنْ لم تعبث به يدُ القارىء الجميل؟

جريدة النور

12-12-2007


الشاعر محمد رشو: المرأة ما تزال تقف على عتبة القصيدة العربية

يوسف الجادر

محمد رشو شاعر يمتلك تجربة متميزة، فهو يجعل من القصيدة فاتحة الحلم، فمن مجموعته الأولى (أنتظر الهواء لأمرَّ بك) جعل القصيدة أرشيفاً ليومياته.

عن تجربته الشعرية كان لنا معه هذا الحوار:

+ تعدُّ الثقافة والمعرفة الفكرية أحد أهم المرتكزات للإبداع الفني لأنها تحدد مسار العمل الإبداعي المنجز، لكنها في حقل الإبداع الشعري تحول القصيدة في بعض الأحيان إلى رموز وشيفرات وطلاسم يصعب حلها، برأيك متى يقترب الشعر من المعرفة ومتى يبتعد؟ وهل هما حدان يكمل أحدهما الآخر ؟

++ هذا سؤال كبير ويعج بالمنحنيات. الثقافة بمفهومها الأشمل تشكل كواليس النص الشعري، وكل تجربة طليعية لا بد أن تكون مثقفة هاضمة ما قبلها، متجاوزة له. والشاعر الفرنسي رامبو الذي يُنظر إليه دائماً كمعجزة، يبعث إلى أستاذه وهو في الخامسة عشرة: أرسل إليَّ كتباً، فليس في مكتبة شارلفيل كتاب لم أقرأه. وسنتفق على أن الشعر لا يقول فكراً. وأيضاَ كل شاعر له أسطورته الخاصة بعوالمها وأسمائها الأليفة، وكثيراَ ما تبدو غامضة جداً لنا كقراء، لكننا نتقبلها. رامبو مرة أخرى، هل نستطيع قراءة قصيدته (حروف اللين ) دون أن نقترب منه بحب؟

+ هناك من يعتقد أن المرأة والقصيدة عالمان يذوبان في عالم واحد، وتبدو المرأة في قصائدك فكرة تنحاز إلى هذا المنحى، وبالتالي ماهو عالم المرأة القصيدة عند محمد رشو وعالم المرأة الأنثى؟

++ لا يكف الشعراء العرب عن قمع المرأة في نصوصهم وذلك بتحويلها إلى رمز، أو بجعلها موضوعاً للرغبة وحسب.المرأة التي تبهرنا، نحبها، ننام معها، نمارس معها الجنس، نمل منها، المرأة التي تكرهنا ونكرهها، نعايشها، نعيد اكتشافها، المرأة من لحم ودم ما تزال تقف على عتبة القصيدة العربية.أظن أن النص الشعري عليه أن يؤنسن المرأة.

+ الشعر في جوهره انعكاس لواقع الإنسان، وهو في لحظة من اللحظات صورة عن الواقع المعيش بأطيافه المختلفة، لكن الحلم يبقى سيد الشعر، ماذا تقول عن الشعر والحلم؟

++ الحلم تكمن قوته في خفته، و(من يحلم يمتزج بالهواء ) على قول جورج شحادة، ويمنحنا الحلم القدرة على استفزاز المخيلة التي تقذفنا إلى حيوات مغايرة متعددة، وبطاقات لامتناهية كانت كامنة قبل قليل. الحلم لا يسكت عن شيء، وكل شيء فيه أقصى: اللذة قصوى، الخوف أقصى، الحرية قصوى. يطهرنا الحلم من ابتذال الحياة اليومية، يمنحنا القوة لنلج يوماً عادياً آخر، يوماً عادياً إلى درجة الرعب. والشعر؟ الشعر يحاولُ في ما يفعله الحلم.

+ عناوين مجموعاتك الشعرية وقصائدك تتجه نحو الاختلاف والانزياح في المعنى، هل تتعب كثيراً في اختيار العناوين، أم أن العنوان يأتي مكملاً للنص الشعري؟

++ أعتقد أن العنوان ليس خارج النص الشعري بل هو داخله، وربما هو متجذر بالمعنى للقصيدة، لأنه عصارة وتكثيف مايشار إليه في القصيدة. لذلك أرى أن العنوان شيءٌ من كلٍّ وهو النص، هو منه وليس للاستدلال عليه فحسب، عضو فيه وليس اكسسواراً يُجَمّل به. العنوان من عمارة النص الداخلية، وليس مفتاحاً أو عتبةً أو باباً.

جريدة النور

12-12-2007