أكراد – أخوتي بالرضاعة: منذر مصري

أول ما تعرفت على عباس بيضون قال لي: (إن لم تكن كردياً ولا تركمانياً ولست من السلمية، إذن أنت شاعر سوري… حاف!؟)

في (ديار بكر) حاروا بأمري، سألوني عن عبد الله أوجلان، أجبت: أعرف عنه بعض ما تناقلته الصحف من أخبار! فسألوني، عن رمضان البوطي، فأجبت أيضاً: لا أستمع لبرامجه ولم أقرأ أيّاً من كتبه!؟ وعندما وقف أحدهم وقال لمحمد أبي سمرا ويوسف بزي وفرج بيرقدار، إن ما سمعه في ندوتهم يخالف ما قالته له أمه يوماً: (أعداء الكردي يا ابني ثلاثة، العربي والتركي والإيراني!) عمدت أن ألتقيه بعد انتهاء الندوة لأقول له: (يا صديقي، أعداؤك الثلاثة هؤلاء هم أخوتك الثلاثة! أما لماذا أخفت عليك أمك حقيقة كهذه، أنا أقول لك، لأن أخوتك العربي والتركي والإيراني ليسوا من بطنها، بل من بطون أمهات أخر، لغات أخرى!!
تستطيع أن تفهم أن بشار عيسى وعمر حمدي وبهرم حاجو (سبهان آدم وأحمد برهو ليسا كرديين، وطوال الوقت كنت أظنهما كذلك) ومحمود حسو ونهاد الترك وحسكو حسكو ونديم آدو وعبد الكريم مجدل بيك وعمران يونس وناصر ابراهيم … رسامون أكراد.. لماذا لا!؟ الرسم لغة عين، رغم أنك لا تستطيع أن تأخذ صورة للفن التشكيلي السوري المعاصر منذ السبعينات لليوم، دون أن تضعهم قريباُ من الوسط وقريباً من المقدمة، ويقول نزار صابور إنهم قريباً سيحتلونها. ولكن ماذا عن حامد بدرخان، سليم بركات، شيخموس علي، ابراهيم يوسف، محمد عفيف الحسيني، لقمان ديركي، الأخوان حسين وعارف حمزة، طه خليل، (عمر قدور ليس كردياً أيضاً!) لقمان محمود، ابراهيم حسو، مها بكر، وصلاح داود، وحسين حبش، ورفعت شيخو، ومحمد رشو، ودلدار فلمز، وسلام أحمد، وأحمد حيدر، عبدالرحمن عفيف، فتح الله الحسيني، ومروان علي، واسماعيل كوسة، وطلال ديركي (هل يحتمل الشعر السوري شاعرين من آل الديركي أحدهما لقمان !؟) … وآخرين كثيرين، دونكم أمثالهم العراقيين، كيف نستطيع أن نقول عنهم إنهم شعراء أكرد، وهم حقاً شعراء أكراد، ولكنهم يكتبون أشعارهم باللغة العربية. وهذا لا يشابه، إذا أردنا المقارنة، حالة الأمريكيين والأستراليين عندما يكتبون باللغة الإنكليزية، ذلك أن الأمريكيين والأستراليين هؤلاء قد اتفقوا أن تكون الانكليزية لغتهم الوطنية، وليس لديهم اليوم سواها، وكذلك الكولومبيين والتشيليين والأرجنتينيين والفنزويليين إذا كتبوا بالإسبانية. ولكن للأكراد لغة ذات أرث، ذات ماضٍ وذات حاضر، وجميع من ذكرت، أحسب، يغني بها.
أتعلمون ماذا تعني جملة: (يكتبون أشعارهم باللغة العربية)؟ أ تعلمون ماذا تعني كلمة: (أشعارهم)؟ تعني أنهم يحبون ويهجرون، يتسلطنون ويتضرعون، يضحكون ويبكون، يأملون وييأسون، ينتصرون انتصارات الشعراء الصغيرة وينهزمون انهزامات الشعراء الكبيرة، يتألمون ويشفون، إذا كان في الشعر رشفة شفاء، وينامون حتى الساعة الثانية ظهراً لأنهم سهروا حتى الساعة السادسة صباحاً، ولا أحد يدري بماذا راحوا يحلمون… باللغة العربية.

لا أحاول أن أبني على واقعة سحرية كهذه، فكرة ما تتجاذبها سياسة أو عصبية أو تفاخر، من أي نوع. ولكني أنتهز فرصة نشر هذه الحلقة من: (دعوة عامة لشخص واحد) التي كتبتها بالمشاركة مع قصائدهم، على النحو الذي ذكرت بالحلقتين السابقين، لأقدمها لهولاء الشعراء، أخوتي، الذين رضعوا من حليب أمي، الأبيض، الحلو، الدسم. فأحبوه وأدمنوه. ولكنه، بالمقابل، لم ينسهم طعم حليب إمهاتهم، ليس لأم كخالدية أن تشد بالطفل من ذراعه، لـتأخذه لنفسها، دون أن يهمها ألمه وصراخه. طوال حياتها معي، أنا ابنها في الحليب والدم، لم تفعل مرة شيئاً كهذا.

إليهم، احتفاء بهم بيننا، احتفاء بجمالهم وروعتهم، احتفاء بالمعنى الذي يعطونه لحياتنا، حياتنا معاً، كما في الماضي، كما الآن، وكما يجب دائماً، في القادم من الأيام..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ذئابُ غيابِها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( حسين بن حمزة )
*
بحُجَّةِ أنَّهُ أقلُّ من أن يُهدى
لم تُهدِ كتابَكَ
لأحد .
/
وبحُجَّةِ أنَّهُ يكفيكَ
من المُدُنِ
نظرةٌ إلى القطار
ومن اللَّه
منديلٌ تُركَ سهواً
على الطّاولة .
/
كَلَحَت قُمصانُكَ في الأدراج
وصارَ للكُتُبِ والفناجين
سحنةُ الغُبار
ولا رُوحَ لديكَ
لتُبدّلَ
ماءَ المزهريّة .
/
لكنَّكَ قبلَ النّوم
تجدُ
ما يكفي منَ الوقت
لتُطعمَ حملانَ عُزلتِكَ
لذئابِ
غيابِها ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2- الحقيقةُ عُذرٌ باهت… دائماً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(لُقمان ديركي)
*
أيُّ عُذرٍ تلتقطُه لغيابك
وعَليها القُبولُ بهِ
بأَنّ هُناكَ مَن يقتُلُكَ كُلَّ مرَّةٍ
قبلَ أن تصل .
/
أو أن تعِدَها في اليومِ التالي
بأنَّكَ ستأتي ستأتي لا محالة
ولا تأتي
لأنَّكَ ببساطة
أحببتَها .
/
ولأنَّ الحقيقةَ عُذرٌ باهتٌ دائماً
فإنَّ أحداً لن يستطيعَ أن يلومَكَ
إن كان الحُبُّ هُو ما
يُؤخِّرُكَ عنِ الحُب .
/
أو أنَّ أُعجوبةً أفلتت منكَ بأُعجوبة
فلا تدري كيفَ خُطواتٌ محَت
خُطواتِك
مع أنّك آخِرُ القَادمين ‍‍! ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3- حَياةٌ مَكشوفَةٌ للقَنص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(عارف حَمزة)
*
مُثيرون للشفقَة
على مقاعد القطاراتِ وفي
غرف استقبال الفَنادق
عُيونُهُم الهاربة
تحتفظُ بِآخِرِ نَظرَةِ هَلَع .
/
كقطيعٍ يائِس مكشوفٍ للقنص .
/
دماؤُهُم ليسَ بِها أسماء
حياتُهم ولت الأدبار
مع آخرين.
/
بهائمٌ نادِمة
تجترُّ القطيعة ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4- مع مَن تقتسِمُ الهواء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(صلاح داود)
*
أربعونَ سَهماً
أصابت غيومَكَ العذِبة
فهطلتَ وبلّلتَ البحر .
/
كتبتَ كلاماً هارِباً باتِّجاهِ اِمرأةٍ هارِبة
ثُمَّ أوصيتها بِوضعِ أصدافِكَ
فوقَ السرير
لأنَكَ ستعود … ستعود
كقمرٍ نازِفٍ يُلوِّثُ ليلَها
بفُروضِ الشغف .
/
إذا بقيتَ وحيداً ونَقيّاً
مع من
تقتسِمُ الهواء ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
5- يدٌ غائبةٌ بينَ كُلِّ يدٍ على يد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(حسين حبش)
*
كيفَ بِمقدورِنا أن ننظُرَ إليكَ
أبداً كوليمة
ولستَ إلاّ يداً غائبة
بينَ كُلِّ يدٍ على يد.
/
تمتدِحُ الماءَ والهواءَ والنار
غاضاً النظرَ عنِ التراب
ذلكَ لأنَّك تُحسِنُ الظنَّ
بالشعراء.
/
ففي قصائد
تكتُبها لفتياتٍ تبدأُ أسماؤهُنَّ بِحرفِ
الهاءِ لا غير، تقولُ :
(إنَّ المساءَ حزينٌ
ويلبَسُ ثِيابَ الحِداد)
لمجرّدِ أنَّهُ يأتي مُعتِماً.
/
وهكذا بعدَ استنكارِنا قُبولَك
دعوةَ سليم بركات المُبطّنة
أن نُسامِحَكَ على شِعرِكِ
نقبلُ بدورِنا أن نُسامِحَكَ
على
تسامُحِكَ معَ كُلِّ شيء .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
6- أينما ذهبت… يعدِّدون مساوئك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(طه خليل)
*
أينما ذهبتَ… يعدِّدون مساوئَكَ
أنتَ من مزَّق تذاكرَ الركاب النائمين بجواره
ووزَّعَ أوطانَه الوهميةَ على الجميع.
/
أينما ذهبت
تعلق صورتها فوق زرِّ الكهرباء
تلك التي بكلِّ وضوح
لن تقصَّ ضفيرتها لغيابك
ولن تنذرَ صوماً لعودتك.
/
بعد أن خلعتَ آخرَ ما ألبستكَ إيّاه أمك
من ثيابِ أخواتِك الخَمس
لم تبقِ عذراً للموت كي يُخطئَك.
/
أينما ذهبتَ
تبكي عليكَ التماثيل
في هزيعِ الليل..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
7-الموتُ ليس ماءً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(محمد رشّو)
*
المرضُ يُفرِح
يَخافونَ عليك منَ الحُمَّى
وعلى أُخوتِكَ منَ العَدوى
فيهبطون بكَ إلى المدينة

السَّفرُ يَشفي .
/
تَبرُدُ وتَخفُّ ثم تطفو
كألَمٍ يَزول .
/
رجال يقفون بالطابور
ينتظرون دورهم
أمام المبولة
سعادتهم أن يتبولوا
على كرات النفتالين .
/
تطلبُ موتاً بارداً
الموتُ ليس ماءً
يا حسن .


  • نشرت في جريدة (بقعة ضوء) – العدد 5 وثم في الموقع الإلكتروني (الحوار المتمدن) بتاريخ ٥ آذار ٢٠٠٦.
  • فصل من كتاب (منذر مصري وشركاه) – دار الغاوون – بيروت 2010

رياض الصالح الحسين محاوراً حامد بدرخان

ظ¢ظ ظ،ظ¦-ظ ظ£-ظ ظ¥_ظ،ظ¦.ظ ظ¥.ظ¥ظ©[1]

حامد بدرخان.. من لا يعرف هذا الإنسان الشاعر؟!. جسده مثقل بالنقمة والسخط. قلبه طافح بالحب. فلاح قروي بسيط. صديق للجميع.. للناس والمدن، للطيور والغابات.
في حلب قابلته، عينين ذاهلتين معبأتين بالعذاب والدمار.. أحياناً تعتقد بأنه ثمل، وأخرى ينتابك الشك بذلك. يبكي كالأطفال، ويضحك بصخب كالأمواج الهائجة. قصائده مبعثرة.. أوقاته مبعثرة.. جسده مبعثر..
ويا حامد بدرخان كنت أبحث عنك منذ زمن بعيد.
في المقعد الخلفي للـ”سرفيس” التي كانت تقلنا لبيت أحد الأصدقاء.. كان حامد يكتب شيئاً ما على ورقة صغيرة، وكأنه يكتب موته وحياته معاً:
“أنا من سلالة الجبال المتحركة
ولم أكن قعيد القبيلة
فالأرض التي فقدت خصوبتها
لن تستطيع أن تحمل
أجساد المجانين وصفوف الجياع..”
وهذا هو حامد بدرخان أمامنا.. شاعراً، وإنساناً، وحياة:

□ ماذا تعني لك الكتابة.. الكلمة؟
– كل شيء، الخبز.. المرأة.. الحب.. النضال. أما الكلمة فهي خنجر جارح مطعم بالأزهار الملونة.
□ ماذا تقرأ، ولمن؟.
– أنا فلاح قروي يموت نهاراً ويحيا ليلاً.. أموت في النهار وراء المحراث الخشبي القديم، معانقاً أشجار الزيتون، ومداعباً سنابل القمح. وأحيا ليلاً أمام محراب الكلمات.. بدءاً من روايات دوستويفسكي، مروراً بكتابات ماركس، وانتهاءاً بأشعار ألبرتي وأراغون و.. عيون إيلزا.
□ ارسم لنا الأرض التي تتمناها !.
– أعرف أنّ الموت يترصدني على قارعة الطريق.. الأرض التي أريدها قد لا أراها، ولكن الرفاق سيكملون نشيدي الأرض، وأؤكد الأرض التي سيحيا عليها الإنسان بدون سادة منتفخين أو عبيد نافعين.
□ لو أعطيتك القدرة على تدمير كل شيء، فأي الأشياء تبدأ بتدميرها أولاً؟
– حينما كنت في الثامنة من عمري، كانت خالتي تقص عليّ حكايات الجن والعفاريت والبطولات الخارقة. ومع ذلك ما كنت أؤمن بجملة مثل (لو أعطيتك القدرة). ولكن لو تسنى لي أن أدمر شيئاً، لدمرت كل ما تعرفه أنت من خلال موقفي الظاهر في كل ما أكتبه.
□ هل تحب امرأة معينة؟
– قبل ساعات قليلة كنت أحب امرأة ولكن الآن أشعر بأنني لا أحب أحداً.. لقد رجعت إلى عزلتي، وعزلتي تتكوّن من ملايين الناس البسطاء.
□ هل تحبُّ دمشق؟!
– أجل. كيف لا! من دمشق كتبت إلى (ميريا).. دمشق الشاغور وكيليكيا والميدان وكوخ البؤساء رقم/4/.
□ وحلب؟
– تسألني! ألم تقرأ قصيدتي (كلمات في ليلة ماطرة)؟ حلب ألمي الكبير.. وجميع أحزان بني حمدان تحوم حول قصر سيف الدولة!.
□ كيف تقرأ قصائدك بعد كتابتها؟
– بانبهار..
□ طيّب.. هل باستطاعتك أن تذكر أسماء ثلاثة شعراء تقرأهم كما تقرأ قصائدك؟..
– أراغون. ناظم حكمت. عمرو بن كلثوم.
□ الشعر العظيم، هل هو حياة أم موت أم انبعاث؟!
– حياة وموت وانبعاث من تابوت.
□ لو سألتك الآن ما الذي تشتهيه.. بماذا ستجيبني؟!
– أريد الاستراحة. لقد تعبت.. أود أن أفكّر بهدوء بالماضي والمستقبل المجهول. آه.. هل توجد موجة أخرى في البحر لتضمّني؟ أم أن الخلود استراحة أبديّة، ولا أظن..
□ أيهما أقرب إليك، الأرض أم السماء؟
– الأرض موطني. والسماء تحت مجهر العلماء الأرضيين من أجل سعادة البشرية وأنا مؤمن بما قاله نيرودا: “مهلاً أيها البحر.. سنتجه إليك عندما نتخلص من متاعبنا الأرضيّة”، لم تزل متاعبنا الأرضية هي.. هي. الموت يهدد/500/ مليون طفل وجائع في العالم. أنا لست من الصائبيين (عبدة النجوم) لكي أهتم بالسماء. أنا ابن الأرض وسليل جسدها.
□ الكتابة عن الواقع الفاسد أصح، أم الكتابة عن الحلم الجميل؟.
– مواجهة الواقع بالكتابة، هي مواجهة للفساد أولاً.. وثانياً تشكيل البدايات للدخول في الحلم الجميل. الشعر لا يفكر بل يوحي. والقصائد العظيمة تصنعها الثورات العظيمة والعكس صحيح.
□ ما هي انطباعاتك الشخصية بعد مقابلتك لأراغون وإيلزا؟.
– رأيته خاشعاً أمام شمس الحب، مستسلماً أمام قسوته، ومجنوناً أمام ما يأتي به.. أما إيلزا فلقد كانت أكثر واقعية.. فالطبيعة صيف حار وشتاء قارس. وتغيرات الفصول حتمية.
□ من هم أصدقاؤك؟ اسم كلاً منهم بكلمة أو أكثر..
– عندما أخرج من داري (قبري) أرى وجوهاً وأجساداً لا تحصى، تحمل الأطفال على أكتافها ذاهبة إلى حصاد العدس.. تلك رفيقتي. وذلك الذي يعتلي زورقه مصارعاً الموج من أجل الخبز هو دمي ورفيقي.. أيضاً. أما إذا أردت أن أذكر أسماء معينة، فليكن. ولكن لا أستطيع أن أحصي الجميع لأنهم كالتراب والماء والهواء تجدهم في كل العالم.
– سعيد حورانية.. الصدق والمجابهة.
– حنا مينه.. الحب والبساطة.
– صلاح فائق.. الاغتراب والجنون.
– علي الجندي.. أصابع الموتى وعلي الجندي.
– ممدوح عدوان.. عظيم في الشعر!
– علي كنعان.. نموذج للاشتراكي المتواضع.
– بندر عبد الحميد.. صوت القاطرات الرائعة. احتفالات المدينة القديمة. لقد بدأ صوته ينقلب ألى (ترس) اسبارطي ضد جيوش التروستات والكارتلات.
– نزيه أبو عفش.. النبي أرميا.. والله قريب من قلبي.
– بشير البكر.. رامبو غاضب وعاشق مجنون. انه يتجاوز نفسه باستمرار.. وسيكون حتماً صوتاً لقاطفي القطن وحاصدي القمح على ضفاف الخابور.
□ ما هي مشاريعك المقبلة؟
– أنا لا أفكر بما سأكتبه في المستقبل، المعاناة – الشروط الاقتصادية الاجتماعية التي أعايشها. عندما تصل بي لدرجة الحمّى، لا أعود أعرف شيئاً سوى الحب. ومثلما النيزك الملتهب يسقط من أعالي السماء، تسقط الكلمات على الأوراق على شكل آلهة مجنّحة يسمونها الشعر.
□ ما هو الشيء الذي عايشته وما زلت تتذكره حتى الآن؟
– أتذكر الحياة كلها، كلوحة تشكيلية مختلفة الألوان. وتحتوي كل شيء: الدم. الانقلابات. النفي. التشرد. العشاق الهائمون، والأيام العشر التي هزّتْ العالم.


حوار مع حامد بدرخان (1924-1996) أجراه رياض الصالح الحسين (1954-1982)، نشر في أواخر السبعينيات في مجلة (جيل الثورة) السورية التابعة لإتحاد طلبة سوريا وأعيد نشره في العدد 62 شهر أيار 2013 من مجلة (أبابيل) الإلكترونية عن قصاصة غير مؤرخة من أرشيف نذير جعفر.


هره

كان نوري ديرسمي قد تجاوز السابعة والأربعين بأشهر حين وصل حلب  ظهيرة السابع والعشرين من أيلول  1940 ليسكن في حي محطة بغداد وليتزوج من فريدة خانم ويبدأ بترتيب حياته الجديدة التي أستغرقت ثلاثة وثلاثين سنة أخرى قضاها بين توثيق ديرسم في تاريخ كردستان والتبشير بالحلم خاتما إياها بتدوين أثار الرغبة على ثلج الوجود، بالوصايا:
أن يمر موكب الجنازة من أمام القنصلية التركية بحلب،
أن يدفن في القبر الذي أعده بنفسه لنفسه ولزوجته داخل الحوش المحيط بمسجد حنان في كفر جنة بجبل الأكراد،
أن يدفن معه كتابه الذي ظل منكبا عليه لسنوات وطبعه في 1952،
أن توضع تحت رأسه كمشة من تراب ديرسم كان قد جلبه معه،
وأن يدون على الشاهدة:
لتتفتح زهرة الربيع
أنا أيضا صرخت على هذا الطريق الصعب.
وحتى ذلك اليوم كان قد تنقل بين آخزونيك وخاربوت وإستانبول وأذربيجان وكيره سون وأنقرة وسيواس ودمشق وعمان، طالبا وطبيبا بيطريا ومنفيا وعسكريا وسياسيا، وحين أصدر الأتراك في 1935 قانون ديرسم لإعادة توطين الأكراد في المنطقة المسماة تونجلي بهدف استئصال الورم الخبيث، ديرسم، المدينة التي تعرضت للحرق ثلاثة عشر مرة،  رفض الأكراد القرار فلجأ الجيش التركي فيما بعد إلى سياسة الأرض المحروقة بالقصف والحرق والقتل والاغتصاب ليقتل بين 40_55ألف من أكراد ديرسم  في ربيع أسود لن تخفف منه المراثي عدا عشرات الالاف الذين ماتوا في المخيمات والسجون، ولم يطمئن الأتراك إلا في 18/11/1937 حين أعدموا سيد رضا قائد الثوار الذي كان قد كان نصح مستشاره نوري أن يخرج إلى الشام ليعقد علاقات في الخارج فلم يتوان عن الخروج سيما بعد أن انتحرت دلال، ابنته الوحيدة التي كانت قد خطفت من قبل الجنود الأتراك فألقت نفسها من فوق الجبل كي تحمي نفسها من الاغتصاب الذي نجت منه لكنها لم تنج من تمثيل الجنود بجسدها.
ولأن الأكراد طيور مبندقة ورثت الرقبة الماوردية لكنار العماء وتتالي الأصفر والأسود في الريش على ظهور حساسين الفقد، ولايسكنون إلا في أغاني ال” بيمال” ، في الأصوات التي ترتجف في مسافة الهواء بين حنجرة المتكلم وأذن من يتقن الإصغاء، فيقال، و” يقال ” حين تقال، تجر وراءها الضباب الذي ترى من خلاله ما تشاء وتصدق أنك رأيته أو تعند أنك لم تر شيئا بتاتا،
يقال، أنه كان في السجن وكان محكوما عليه بالإعدام، وفي الليلة التي يسبق تنفيذ الحكم، فتح الباب بعد منتصف الليل، سحبه أحدهم في الظلام، سحبه من يده، وأسرع الخطا وراءه بحذر، وتبعه بحذر أشد في الممرات المظلمة حتى وصلا إلى الخارج حيث كان هناك حصان، عانقه الملاك الغريب الذي دون أن يضيع لحظة، حط يده اليمنى تحت قدمه ورفعه ليصير بحركة واحدة على السرج،و ثم دون أن يهدر لحظة أخرى، لكز بكفه على مؤخرة الحصان،  وبالكردية صرخ ” اذهب” ببحة خفيفة سرعان ما تبددت خلفه في هواء لحظتها ما إن انطلق الحصان لكنها ظلت تتردد في رأسه طوال عمره وأينما كان.

مرض الشعراء

11863484_10152655372987168_5759890020635455901_n

                                                                                                                             حامد بدرخان ونازلي خليل

كانت نازلية خليل تملك كل ما يجعل منها مُلهمة، تدير في منزلها بحي السريان ما يكاد أن يكون صالوناً، تعزف على البزق، تملك عنقاً طويلاً على جسدٍ رشيق مع عينين عميقتين تردّدان مع كل إغماضة وفتح: أفهمك.
كانت تصغره بأربعة عشر عاماً، تزوجت في السادسة عشرة من أستاذ المدرسة الذي سيلتقيه حامد بدرخان فور عودته من إستانبول، وكان حامد الشاعر مركّباً من الحالم الثوري والنبي المبّشر، نموذج الواقعية الاشتراكية في زمانها، نزح بين شِيّه وقرقخان واستانبول ودمشق وحلب، يكتب بأربع لغات، سُجن مع ناظم حكمت، ويعرفه لويس أراغون وعزيز نيسن وعلي الجندي ورياض الصالح الحسين وبندر عبد الحميد…
حين كان يمرض كما يذكر ابراهيم اليوسف كان ينزل إلى حلب ليتعافى في منزلها، وكان القرويون، جيرانه، يتندّرون، أيّ سحرٍ تمتلكه نازلي لتبثّ الحياة في عظامك.
كان حامد مصاباً بالحميمية، مرض الشعراء الذي لا ينجو منه أحد منهم حتى يُودي بهم إلى الهاوية.
أهداها “على دروب آسيا” دار الحوار ١٩٨٣، واستودعها مذكراته التي فُقدت، وفوّضها بخطّ اليد بحقّ التصرّف في أمواله وممتلكاته وأعماله كاملةً وحتى بطريقة دفنه.

سعيد حورانية

أواسط الستينات قدم سعيد حورانية إلى موسكو ليعمل في ” أنباء موسكو” ولتتحول شقته في شارع بولشايا بولشتوفايا  إلى صالون أدبي كان جلس فيه محمود درويش وسعيد مراد وعبد المنان شما وفواز الساجر وغائب طعمة فرمان….
بالتأكيد لم يكن يخمن أنه سيعمر حتى١٩٩٤ وأنه سيصاب بسرطان الرئة وتستأصل إحدى رئتيه دون جدوى ليموت وتبقى بعده نادية خضور أربع سنوات لتستعيد توازنها وهي في اللباس الأسود تحيا في الممرات الباردة السيئة التهوية، ممرات الحياة، لكنه كان يتذكر جيدا عندما كان في الكفاءة ولبس بنطلونا من البالة العسكرية وكيف أنه كان يكبر وبقي يرتديه البنطلون نفسه حتى نال البكالوريا.
وتتشكل أقواس الحياة:
جاءت الحرب وذهبت الحرب لتنحدر العائلة من التجارة إلى الإفلاس، وأيضا من شاب متدين في الثامنة عشرة يكلف من قبل قادة جمعية دينية ينتمي لها بوضع قنبلة تحت احدى التراموات بالقابون،( لم تنفجر بسبب الرطوبة ولحسن الحظ ) إلى يساري عتيد ولو لم ينتسب لحزب ما، وأيضا من شاعر ينشر في النقاد والرسالة والأديب إلى قاص سيشكل ندا واقعيا للساخر حسيب الكيالي والتعبيري زكريا تامر وليعترف بجرأة تقل وجودها: كتبت شعرا لكنه كان شعرا رديئا.
في الناس مسرة ١٩٥٣
شتاء قاس آخر ١٩٦٢
سنتان وتحترق الغابة ١٩٦٤
وليصمت بعدها، وبالتأكيد أيضا لم يكن قرار شخصيا، القرارات يتخذها رب العدم ونحن ننطق بها وحسب.
سيغادر سوريا فارا من مخابرات السراج أيام الوحدة إلى لبنان ليلقى هناك القبض عليه بتهمة التآمر على عبد الناصر حيث عثر في غرفته على هوية” مزورة” وكتب ” ممنوعة” ومخطوطات له، يحكم عليه بالسجن عاما وتتلف المخطوطات جميعها:
بنادق تحت القش ” رواية”
صياح الديكة ” مسرحية”
و( ٥٣ ) قصة قصيرة.
سيصمت طويلا إذن ليقول بعدها بسنوات:
كان هذا أفظع شيء حدث في حياتي على الإطلاق.

إغراء

 

في موسكو ١٩٧٥ شاركت في المهرجان العالمي التاسع بثلاثة أفلام، حصل أحدها الذي عرض داخل المسابقة ( أموت مرتين وأحبك) على جائزة تقديرية من النقاد، وحصلت هي على لقب ( فنانة الشعب) ليصفها المخرج الروسي بوندار تشوك بأنها، بلا شك، أيقونة السينما السورية، ووصف وجهها بأنه غول يأكل الشاشة.
“لا أشبه أحدا ولا أحد يشبهني” كانت تعي ما تقول، ولذلك صرحت أكثر من مرة: ” لا يتوقع مني أحد على الإطلاق أن أتقدم بعريضة ألتمس فيه حكما بالبراءة الشخصية وشهادة حسن سلوك”.
امرأة غير عادية، قال عنها عمر أميرالاي الذي كان يحضر عنها فيلمه الوثائقي: إغراء، عدة نساء متميزات في امرأة، وأضاف بأنها: قطعة ذهبية نادرة في مجتمع اليوم المحافظ وحتى في مجتمع الفنانين الذين يتحجبون ويقدمون على التطهر والاعتراف الذاتي.
بدأت نهاد علاء الدين ( مواليد حلب ) راقصة مع شقيقتها سحر، وكانت في الرابعة عشرة حين شاركت في ( عودة الحياة١٩٥٩  ) وأنجزت (٥٥) فيلما تمثيلا وبعضها قصة وسيناريو وحوارا ومنها خمسة أفلام إنتاجا وإخراجا، ثم جمعت ما يخصها من الأفيشات والبكرات والتذكارات بالإضافة إلى حلى مرصعة وحيوانات محنطة إلى بيتها بدمشق  وانسحبت إلى مملكة العزلة  وهي تراقب المهرجين يقدمون سيركهم السينمائي ببراعة ويصفقون لبعضهم البعض مصدقين أنهم صناع السينما، لم تنجب أطفالا رغم أنها تزوجت أكثر من مرة، لاتزال ترتدي كما كانت ترتدي في شبابها الجينز الضيق وتضع مكياجا مبالغا فيه ، تحيا حياة ليلية ولا تستيقظ إلا بعد الظهر، تتكلم بصوت يقطعه التدخين الطويل وبكل ما تبقى لها من الإيمان والرقة والهشاشة تحدق في نقطة عمياء وتردد حكمتها لضيف من الأصدقاء الذين يعدون على أصابع اليد، حكمة الشمس، الحكمة البيضاء، الحكمة التي لم تكن سوى قول  لتشارلي شابلن:
إذا كنت أنا والعالم على طرفي نقيض، فعلى العالم أن يتغير.

الآنسة س

27888_525556397454486_1410952855_n1
مع سمر المير

في حلب دخلت حياته الآنسة «س» ذات الجسد المتين والقلب الطيب كالدراق، ونامت في فراشه بعد أن نفضت عن شعرها الخرنوبي الخفيف ست مدرعات محطمة وحقلاً من الذرة البيضاء.

كان رياض الصالح الحسين يعمل عاملاً مياوماً في شركة النسيج، وثم في مؤسسة الأمالي الجامعية التي كان يعمل فيها أيضاً وقتها نذير جعفر الذي يذكر أن رياض كتب كل «خراب الدورة الدموية» في حلب، وثم يتكلم عنه فيقول أنه كان يتألم حين يوصف بالأصم لأنه كان يقرأ الشفاه، ولا يلجأ للكتابة على الورق إلا في المراحل الأولى من العلاقة، ويضيف، ولم يكن أبكماً بل كان يتحدث ويغني بلكنة مميزة ونبرة خاصة، وأكثر ما كان يحب أن يردد من الأغاني، كانت (بكتب اسمك يا حبيبي ع الحور العتيق) وظل يحيّره حتى الموت سؤال فيروز: «ما زالك بتحبني ، ليش دخلك ليش؟»
فكان يسأل من حوله حسب ما يقول وائل سواح: «ليش شو؟»


أما الآنسة «س» فكان اسمها سمر، يقول وائل السواح الذي رآه أول مرة حين اصطحبه بشير البكر في عام ١٩٧٧ إلى مكتب الكراس وقال له: «هو ذا شاعر،» ويجزم وائل: «ولا أحسب أنه أحب غيرها.»
في تلك السنة كان قد انتقل إلى دمشق وعمل في مركز الدراسات الفلسطينية ومصححاً في وزارة الثقافة وكان قد أصبح يرى أنه يكتب شيئاً مهماً.


في زيارته الأخيرة لمنذر مصري كانت بصحبته هالة الفيصل التي أكدت له أكثر من مرة «في حضرة رياض وغيابه بأن مجيئها مع رياض لا يعني أنها على أية علاقة برياض سوى الرفقة».
في 6 تشرين الأول 1982 يكتب لمنذر: «ربما أتزوج، لا تسأل من، لا أحب الفضوليين.»، وحين يتحدث منذر  عمن بحوذته رسائل رياض يذكر حسن م يوسف وبندر عبد الحميد ونذير جعفر ومهدي محمد علي وهيفاء أحمد وسمر المير!


الآنسة «س» التي تبيع الشيكلس في المحطات حتى الغروب، ذات الشعر الخرنوبي التي تتعفن تحت لسانها ليمونةٌ من الأسئلة المخيفة والبسيطة، كان على رياض أن يقبلها، وقبّلها حقاً وأكثر من ذلك يظن أنه فعلها بشكل جيد، وربما كانت هي نفسها من يذكرها رياض في رسالة أخرى مرفقة مع نسخة من «بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس» ومرسلة قبل الرسالة المذكورة سابقاً بثلاثة شهور ونصف ويوم أو يومين، قائلاً بأنه يبحث عن كوخ للزواج، مضيفاً:
«الأمر أصبح جدياً والطفل يقرع الجدران.»


الأعمال الشعرية الكاملة – رياض الصالح الحسين – جدار للنشر الإلكتروني عام ٢٠٠٧