دويرينة

wpid-69cdb8cc29933f908946c563eb74eb5b

                                                                                 مظفر سلمان (سوريا)

في أواخر 1955 يزور مراسل مجلة السنابل الأسبوعية مشفى ابن خلدون للأمراض العقلية والنفسية بحلب ويلتقي بالطبيب كمال قوجه الذي كان يديره حينها مع ممرضين وممرضات يشرفون على معالجة 105 مجنوناً و50 مجنونة.
ليسوا مرضى بل مجانين في لغة الصحفي الذي يعلي من شأن نفسه ومن شأن مهنته وهو يخوض مغامرة الولوج في عالم لا يخصه، بعيدٍ وغريب ومسلٍّ بالوقت نفسه دون أن ينسى أن ينتقد وزارة الصحة بلغة بلاغية فاقعة ومواربة فالوزارة قالت للمستشفى: ” كن بشراً سوياً ” فجاءت ” مسخاً زرياً “.
المسخ الزري الذي أراده مجد الدين الجابري مشروعاً نبيلاً وبناه بأموال البلدية حين ترأسها بين 1946-1948 ظلّ مقترناً بقصص يكتنفها الغموض والطرافة لبشرٍ منبوذين كانت الدويرينة أحياناً كثيرة عقاباً لهم لا علاجاً.
(ع الدويرينة) صار تلميحاً من أهل حلب لفقدان العقل والحكمة بعدما غلب اسم القرية الواقعة جنوب شرق المدينة على اسم المشفى الذي شيّد قربها والذي ضمّ بين أسوارها غريبي الأطوار، المكتئبين، القتلة الاحترازيين، العصابيين، المغضوبين عليهم، بل واستضاف ذات وقتٍ لؤي كيالي أحد أهم رسامي سوريا الذي تعرض لهجمةٍ حادة من الفصام وأودع هناك بالقوة، بتوصيةٍ من عمّه، مدير صحة حلب آنذاك الطبيب طه اسحاق الكيالي.
مع حلول صيف 2013، كانت حلب قد أكملت عامها الأول من الحرب وبات المستشفى مدمراً لوقوعه على خط النار بين الحكومة والمعارضة، قُتل من قتِل من المرضى الذين عاشوا كابوساً من الرعب والقسوة مع فقدان الكهرباء والماء والمازوت والأدوية والطعام وتخلي الأطباء والأهل عنهم واستخدام الجنود لهم كدروعٍ بشرية، وثم هرب من هرب منهم ليهيموا في شوارع حلب في مشهد سوريالي أنجزه الجميع بإتقان ومن أصل 350 مريضاً و61 مريضة نقل 170، هم الذين تبقوا، إلى حي هنانو في مقرٍ مؤقت بائس، في ذاك المكان، في الممر التقط المصور مظفر سلمان فيديو مدته أربع دقائق وعلى عجل.
في الدقائق تلك يقترب الرجل الذي يظهر في الفيديو طالباً تصويره أيضاً، وبكلامٍ لا رابط يبدو للوهلة الأولى، عن أربعة آلاف طير حمام جلبهم من بلدانٍ شتى، يربيهم ويطعمهم ويطيّرهم ويعمّر لهم ستارات بناء، كل طيرٍ بخمسين ألف ليرة، يسرد الرجلُ ويحلف ويهذي:
” أنا بكشّهم من الشام، بيجوني ع حلب لهون.”
” كشيتهم ما رجعوا ”
” وهون بحلب كشيّت وما رجعوا “،
يتكلم الرجل، ومثلما تحولت الدويرينة إلى مجازٍ، لا مكانٍ، أو المكان كلّه، تتحول حياة الرجل التي اخترعها، على الأغلب، وهو يتكلم مع المصور مخاطباً إياه بالدكتور، لتحلق طيوره الرمزية نحو نهاياتها:
” منهم ماتوا،
” منهم صار معهم ارتجاج،
” منهم طفشوا ما بقى يعرفوا راسهم من طيزهم”.
يلفظ الرجل ” طيزهم ” ويستدرك على الفور: ” عفواً من هالحكي هده”.
يعتذر الرجل للهفوة، لقلة الاحتشام، ويموت بعد أشهر بجلطةٍ في الدماغ تاركاً إيانا جميعاً نحن العقلاء نهيم في شوارع الخطأ، الخطأ الذي سيُدفن دون أن يعترف به أحد.

مقر مؤقت – مظفر سلمان