الطريق إلى سكوبي

10600014_614276768689966_349407071_o

                                                                                                                 شارع في أثينا – تصوير جوان عكاش

1

في سيارة الأجرة تمكنت من تدوين شعارات تم كتابتها بجانب تخطيطات غرافيكية في شارع باتيسيون، من قبيل:
Have sex hate sexism
Eat the rich fight the Nazis
وحين وصلنا إلى محطة القطار وسألنا عن الرحلة إلى تسالونيك، قالت موظفة التذاكر:
Ok, but no seats
فقضينا الساعات الست جالسين على الأرضية في مؤخرة المقطورة، وكان الركاب يبتسمون لنا وهم يفتحون باب التواليت، ويستأذنون بود حاملين أكياس الشيبس وزجاجات المياه والكوكاكولا لكي يعبروا بين أرجلنا عائدين من البوفيه.
كان معنا في المؤخرة سلمى الحايك وشابان يونانيان أحدهما الذي لم يخلص شحن آيباده طوال الوقت وكان يشاهد فيلماً كوميدياً ويغيب بين وقت لآخر داخل التواليت أما الآخر فجلس على قفص داخله قط وحين بدأ القط بالمواء، أخرجه وظل يداعبه ويمسد له ظهره حتى وصلنا.
سلمى الحايك كانت يونانية سمراء قفزت إلى القطار في اللحظات الأخيرة قبل أن ينطلق، كانت مخالفة ودفعت ستة وعشرين يورو حين جاء المفتش، ولم يمض القطار حتى قعدت في مكانها بجانب الباب الذي ظل ينغلق وينفتح.
سلمى الحايك لكن بعينين أشد شراسة حين تضرب بقبضتيها على صدر دييغو ريفييرا والتي حدت مكانها الخاص بشنطة عليها رسومات عباد الشمس وتحولت إلى وسادة لاحقاً كانت علامة فأل حسن حتى نزلت قبل تسالونيك بمحطة بلاتي، فبلاتي أي الحديقة لم تكن سوى الجزيرة غير المأهولة التي كاد قاربنا أن يغرق قربها حين توقف المحرك بين يدي المحشش التونسي قبل شهر ونصف في الثانية بمنتصف الليل.

2

النفر والريبر والنقطة ثلاثة مفردات يستعملها الأفغان والباكستانيون والعرب والأكراد والأفارقة في عالم التهريب.
يستقل الأنفار الباص من كاراج تسالونيك بإيعازات من مجهولين يتحدثون الإنكليزية نحو بلدة بوليكاسترو على حدود مقدونيا، ثم يستلمهم الريبر عند البساتين غرب البلدة ويبدأ المشي على سكة القطار أكثر من أربع ساعات وصولاً إلى النقطة.
وكي تكون مستعداً: لا بد أن ترتدي خفافة ذات نعل سميك، تتزود بكيلوين من التمر وما لا يقل عن ثلاثة قناني ماء كبيرة تحملها في شنطة تحمل على الظهر، وألا تهمل اصطحاب كيس نوم وأكياس بلاستيكية كبيرة للوقاية من المطر، وألا تبقِ معك أكثر من مئتي يورو، وأن تتوكل على الرب أو تتبع قلبك، سمّها ما شئت.
بينما كنا ننتظر عند سكة القطار قدوم آخرين للانضمام إلينا، فجأة أتى القطار وبلمح البصر قفزنا إلى داخل الدغل وطارت شنطة أحدنا في الهواء لنعرف في الحنجلة أن الطريق لن يكون كما توقعنا.
خلال الأربع الساعات الأولى سيثبت كل واحد لنفسه وللريبرأنه يستطيع المشي وأنه سيتحمل زوغان العينين على الجسر الخشبي وآلام باطن القدم والمفاصل والظهر، وأنه ليس وحده في الطريق فما أكثر من ترك حذاء أو قميصاً أو علب السردين هنا وهناك، وأنه يمكن أن يعتمد على أمنا الطبيعة فيأكل من التين والتوت البري، سيقول الكردي للأفغاني: خوده حافز، وسيبتسم الأفغاني وسيظهر أنه يستطيع أن يغني بالكردية ويقول ” أز جه ته حزدكم ” دون خطأ، وبعد ما يقارب ثلاثة ساعات يكون تحت جسر عال متمدداً على الظهر بعد استراحة الطعام، يتلقى رسالة من شركة الهواتف المحمولة بمقدونيا: ” مرحباً بك في مقدونيا، نأمل بقوة أن تزور متحف الكفاح المقدوني، و المنزل التذكاري للأم تيريزا في سكوبي، والمتحف الذي على الماء في أوهريد “.
كنا حقاً نريد أن نكون عند حسن ظن المقدونيين لنزور منزل الأم تيريزا والمتحف الذي على الماء، ولكن ماذا نقول للكلاب التي كانت تعوي عند حقول الذرة، ماذا نقول لسيارة البوليس التي ظللنا نركض ربع ساعة حتى تخلصنا منهم بمناورة، بل ماذا نقول لريبرنا الجديد الذي استلمنا في جبال مقدونيا، لرحيم العظيم الذي كان يجلس على صخرة كمعلم تايكواندو في أفلام بروسلي، كزعيم روحي في جبال تورا بورا، أو وكي تكون الصورة أوضح مثل كلينت إيستوود في فيلم ” من أجل حفنة من الدولارات ” ولكن دون قبعة ودون سيكارة لا تنطفئ.

3

سبقتنا مجموعة أخرى قبل أسبوع، وكنا كلما اتصلنا بكاميران يقول: أنهم ما يزالون ينتظرون في النقطة وأنهم لا يفعلون شيئاً منذ يومين سوى أكل الذرة.
تتبعنا رحيم عبر الحقول، كنا ستة شباب أكراد وحوالي عشرين أفغانياً نصفهم نساء وأطفال وأحدهم لم يتجاوز السنتين كان الأب يحمله على رقبته أو يعلقه بحمالة زرقاء على ظهره، ثم دخلنا غابة ومشينا ساعة تماماً لنصل مع الغروب إلى وادٍ عريض تخفيه الأشجار الكبيرة لتتفاجأ بوجود ما لا يقل عن مئة نفر في البقعة العميقة القذرة القليلة الهواء، قال بعضم أنهم قضوا ليلتين هنا لذلك كنا سعداء حين تحركنا معهم بعد ثلاث ساعات في أربعة فصائل، لكل فصيل ريبرها القديم، تصف في رتل واحد طويل يقوده رحيم، ومن لحظتها سنُنادى ب
Friend أو brother
المفعمتين باللطف والحميمية الخادعة التي لن تستطيع أن تخفي الطابع العسكري الصارم والذي يقتضي الانضباط التام بالأوامر التي تنطق بنبرة شبحية ربما توائم المسير الليلي وبالإنكليزية طبعاً مثل:
Go, do not speak, stop, quick
حينئذ ستعرف أنها عملية استلام وتسليم تبدأ مع السماسرة في مقاهي أخرنون وفيكتوريا بأثينا الذين بربطونك بكذبة تطول وتمتد وتُستنسخ وتُعاد في كل مكان تصل إليه، لذلك حين قال رحيم أن سيارات ستقلّنا حتى سكوبي، صدّقنا ولم نصدّق، ولم نفعل إلا ما نقدر عليه: أن نمشي.
في المسير الليلي تتوافر كل ما يمكن أن تصنع منه فيلم أكشن أو مغامرات، وبصيغة أخرى تختبر كل ما شاهدته في فيلم ذات مرة: النبض بم بم في الأذن حتى لتظن أن القلب قد غيّر مكانه، لا ضوء ولا صوت ينبغي أن يصدر، الموبايلات ينبغي أن تُغلق، التزحلق من منحدر عال، أن تسرع الخطى كمن يسبقك حتى لا يعضك كلب من كلاب البلدات، ألا تنحني لتربط حذائك مخافة أن تفقد أثر القافلة الذي لا يُرى في الظلام لأكثر من أربعة أمتار، القفز فوق جدول ماء ثم السقوط فيه، لسعات من حشرات غير مرئية، أن يقع أحدٌ بجانبك في حفرة وتتردد بين أن تمد اليد إليه و ترافقه في المؤخرة، هذا إذا استطاع أن يقوم ولم يكن الهلاك خاتمته، أو أن تدعه في حفرته وتمضي فلا أحد ربما سيستدير إلى الخلف ،ربما حين تقع في حفرة.
كنا نسرع ومشينا أكثر من ثمان ساعات لنقضي ليلتنا الأولى في العراء على ضفة جدول صغير في غابات مقدونيا ولم نرَ سيارة وطوال المسير كان كلما تخلّف أحدهم أو تباطأ كانت البحة الشيطانية من رحيم أو أحد من مساعديه توقظه وبالنبرة الشبحية نفسها:
Go,Go,Go
خلال دقائق غرق ما يقارب من مئة نفر في النوم، وكنا نرى أنفسنا محظوظين لأننا غادرنا النقطة دون تأخر، ولم نمكث يومين أو ثلاثة حتى ينفد ما معنا ولا يبق أمامنا كما حصل مع كاميران وجماعته سوى أن نقضم أكواز الذرة.

4

تستيقظ لترى الضوء ساحراً، سحر هبوط آدم غيرالمشروط على الأرض متخففاً من ذكريات الجنة، لكن سرعان ما يزول السحر حين ترى نيجيرياً على بعد خطوات يخرج قضيبه ليتبول في جدول الماء الذي يتزود منه آخر هناك على بعد عشرة أمتار بعد أن بدأ الماء يقلّ، وثم يزول تماماً حين ترى مفرزات الثقل في البدن، لا فرشاة أسنان، لا مزيلات عرق، لا لصقات جروح وخدوش، حتى حين تتغوط لا حجارة ولا مناديل كافية ولا ماء لتمنع الحكة لاحقاً في المؤخرة وبين الفخذين.
قال الذين يتقربون من رحيم بأن تبدلاً قد طرأ، وأننا سننتقل بالقطار في الليل لكن علينا أن نمشي ساعة فقط لنتمركز قرب السكة.
هذه المرة مشينا ساعتين حتى وصلنا إلى مكان مخفي بين حقول العنب وطرف غابة، قضينا النهار ليقودنا ريبر آخر تستطيع أن تطلق عليه أي من الأسماء لكن هذا لن يغير في كونه لصاً ومحتالاً ووقحاً، لن يتردد بأن يهدد أو يستعمل قبضته إذا أصدر أحدٌ صوتاً أثناء المسير، سيجلس مع كل جماعة على الانفراد ليقنعهم بأنه ثمة تكاسي نستطيع أن نستأجرها حتى سكوبي أو حتى حدود صربيا مقابل 350 يورو للنفر، طبعاً هذا خارج الاتفاق المبرم مع السماسرة في أثينا، وأظنه كان يريد أن يتودد إلى الصومالية ذات الشعر المميش اللبقة التي تتقن العربية والإنكليزية واليونانية وعملت سابقاً في بيروت مدة سنتين قبل أن تحمل ابنها وتبحر إلى أثينا برفقة زوجها قبل عامين، لكنها كانت أكثر ذكاء فأخذت تجادله في الرحلة، في الماء العكر، في التمر القليل، وفي الكذب الذي يمتهنونه لدرجة ألا يبقى عند من إمتهن الكذب فرق ٌ بين أن ينطق كلمة أو أن يضرط ضرطة.
وأظن أن الحنث بالوعود كان يطال كل شيء، فنحن لن نمشي حتى النمسا أكثر من أربع ساعات فمشينا أكثر من أربعة عشر ساعة في اليوم الأول وما نزال في مقدونيا فأين نحن من صربيا وهنغاريا والنمسا، وحسب الاتفاق أيضاً، أن مجموعتنا لن تتجاوز عشرين نفراً، لكن في الليل حين كنا ننتظر بجانب سكة القطار انضم إلينا رتل طويل آخر فأمسينا لا أقل من مئتي نفر، أو مئتي ظل، مئتي لا أحد، مئتي لا شيء، انتظرنا مقرفصين وانتظرنا منبطحين ثم مرّ القطار سريعاً ودون أن يتوقف.
مرّ القطار وترك لنا الخيبة ونظرنا حولنا كانوا قد اختفوا، لم يكن هناك أثر لريبر، وقضينا ليلتنا الأخرى هناك في العراء جانب السكة، وبينما كانت الأشجار تجرّ سحراً في الصباح، فهنا حيث لا أشجار تصدّ الريح كان البرد، البرد اللارحمة الذي يجعلك ترتجف حتى الفجر لتختبر سحراً آخر، هذه المرة، كان سحراً لكن أسود تماماً.

5

على خط سكة القطار بين بوليكاسترو حتى الجسر الإسمنتي العالي الذي ترى بعده العلم المقدوني بالبرتقالي والأصفر كنتُ أمشي بين أفراد مجموعتنا بعد الريبر بخطوات أو أتأخر قليلاً، ووصولاً إلى اليوم الثالث حيث يفعل قانونٌ يشبه قانون الاصطفاء الدارويني فعله كنتُ لا أرى إلا في آخر الرتل بين الأفغان و الصوماليين و لم أكن أر ورائي سوى السيدة الدرعاوية التي تجرّ طفلتها ذات السبع سنوات و التوأم الذكر ذا الأربع سنوات والأفغانية التي كانت تدوخ في الطريق والصومالية التي كانت تتوكأ على عصا أو تمسك بيد زوجها سليمان الصومالي من طرف الأب، التنزاني من طرف الأم ولم أتأكد إن كانت حاملاً في الأشهر الأولى أم أنها أجرت عملية جراحية.
في الخامسة فجراً عاد الباكستانيون وبربروا بالأوردية ثم قادونا مرة أخرى في الجبال شرقاً وفهمنا أنه لم يبق أمل في جلب سيارات وأننا سنكمل مشياً أسبوعاً وأكثر حتى سكوبي بل حتى حدود صربيا وأنهم لن يكفوا عن ابتزازنا في الأكل والماء.
بعد ما يقارب ساعتين من المشي استقرنا بين أشجار السنديان وكنا منهكين تماماً، المتقشفون كان لديهم نصف زجاجة ماء و حبات معدودة من التمر، نمنا كيفما كان وتقصدنا الأماكن التي تصلها الشمس لنتخلص من قسوة برد البارحة ثم استيقظنا بعد ساعتين وغيرنا محلنا إلى ظل السنديان و استيقظنا بعد الظهر ولم يكن أحدنا يملك الهمّة ليغيّر مكانه رغم وصول ضوء الشمس إلى قدميه أو بطنه، وحين جاء الأفغاني الذي كان خالد يلفّ له السكائر ، ردّه خالد هذه المرة خائباً ، أما علي فمدّ رجله بيننا و حدّ مكانه ثم فتح علبة تون الأخيرة لديه و قبل أن يرمي غطاء العلبة بالكاد قال تفضلوا وكأنه لا يقصد ذلك.
وحينما أعلن أحدهم في العصر أنه يعرف الطريق إلى قرية فيها كنيسة، قمنا ورويداً رويداً كان رتلٌ آخرٌ قد تشكّل، وهبطنا نحو الأسفل وكنا نلتفت للخلف مخافة أن ينتقم منا الباكستانيون الذين كانوا قد اختفوا سوى ريبرنا القديم الذي ظل في الأعلى وحوله الأفغان.
خلال ساعة كنا في ساحة بلدة في انتظار سيارة البوليس الذين اتصلنا بهم مخافة المافيا التي تجول في تلك المنطقة، جلب لنا المقدونيون زجاجات المياه والبيبسي وكانت تلك المرة الأولى التي نرى فيها أحداً من أهل البلد.
جاءت سيارة البوليس، صعدنا واحداً واحداً إلى الخلف من سيارة البوليس القفص، فيما الصومالية كانت مع زوجها في مقعدين متجاورين خلف السائق، كانت السيارة تمضي بهدوء في الليل، سليمان يمسك رأسه بين يديه ويضغط بإبهاميه على جذر الأنف وأول الحاجبين، فيما المرأة كانت تمسد بطنها وتنقر عليه بسبابتها نقراُ خفيفاً وهي تنظر إلى الخارج بعينيها الحزينتين ولم أعد أهتم بأن أخمّن إن كانت قد أجرت عمليةً جراحية أو أنها حامل ٌفي أشهرها الأولى.

النفر

إما أن تموت أو تنضم للقتلة و إما أن تهرب .
و حين يهرب أحدٌ ما ، تنغلق الحكاية عليه و لا يعود يُرى ، و تنفتح حكاية أخرى ، يحاول فيها أن يقول أنه كان شيئاً ، ذات يوم ، كان الإبن البار الذي يدفع فواتير الكهرباء و يجلب أدوية السكري و يضبط جهاز الضغط ، البابا البطل الذي يجعل الوقت يمرُّ سريعاً ، أو الأخ صانع المعجزات ، و أنه كان يقود سيارته الهونداي البيضاء في ساحات المدينة ، و كان له أصدقاءيكذبون عليه في الأول من نيسان ، و أنه كان يعمل و يرأف ، يحب و يخون ، يخطئ و يندم ، و يوماً وراء يوم ، يفقد شيئاً ، ليستيقظ ذات صباح و قد تحول إلى حشرة هائلة ، يدعونه النفر ، و النفر في لغة التهريب ، يُكذب عليه أينما ذهب ، يُحتال عليه فيسكت ، يُكلبشُ و يسير مكلبشاً أمام مئة شخص ، يُجوّع و يحاكم و يسلب منه المال ، يُصفع و لا يرد ، تُسحبُ عليه المسدسات و السكاكين ، و يُنتاكُ على حدود صربيا و مقدونيا ، و لا يشتكي ، و في ظهيرة يوم إثنين حين يأتي موظفان يعانيان من إكتئاب عطلة الأحد ، يفرحُ النفر لأنه سيستلم أوراقه ، ما يدل عليه ، فيبتسم بوداعة للمتجهم الذي يصوره بالموبايل ، و يسلم يده للموظف الآخر لترتخي بإذعان في يده الخبيرة ، و ، يبصم .