ملح القدر

تركت عنتاب في 1961بعد أن فُصِلتْ من إذاعتها إثر غناءها بالكردية واتجهت إلى إستانبول لتصدر بعد عامين أسطوانتها ez xezalim التي احتوت أغنتين بالكردية حيث لمع نجمها، وظلت مصرّة على الغناء بالتركية والكردية التي لم يُرْفَع الحظر عنها إلا في 1990 في عهد تورغوت أوزال حتى تعرضت لطعنة سكين من أحد المتطرفين على المسرح فغادرت بعدها إلى ألمانيا.
لم تمكث عايشة شان (1938_1996) ذات الصوت الملائكي والحس الشعبي الفريد في ألمانيا سوى أربعة أعوام عادت بعدها إلى إستانبول لتصدر Memo Gider Almanya’ya التي أصبحت من الإسطوانات الأشهر في تركيا آنذاك.
من حارة عربداشه بديار بكر إلى إلى غرفة بإحدى مشافي أزمير، من عائلة تعجن الخبز في منزلها وتبيعه إلى جنازة بائسة لا يسندها إلا مراد الإبن وياسمين الإبنة وقلائل آخرون، عرفت عايشة شان جيداً القَدَر الذي يتغنى الأكراد به كعدوٍ حميم، وكما ينبغي أن يُعاملُ العدو الحميم، أنكرت عليه الدماثة والحب والخفة، ودَعَتْ عليه بأن تلفّ الثعابين حول عنقه لتخنقه، لكنها في السرّ كانت تتذوق الملح الأبيض الأسود الذي يرشح من دمعه ودمه وإبطه ولعابه، الملح الذي لا بد منه لتستقيم مائدة الحياة.

أياز

تقول الأسطورة بأن اسم زاخو انحدر من ( زي خوين ) أي نهر الدم نسبة إلى معركة جرت فيها بين الفرس والرومان أريقت خلالها الدماء بكثرة في نهر الخابور الذي أقيم بين ضفتيه جسر دَلال وتقول الأسطورة الثانية أن اسم دلال يعود إلى ابنة بنّاء الجسر الذي ظل يحلم مرات كثيرة بأنه لا بد من قربان  يُذبح من أجل الربّ كيلا يتعرّض الجسر للهدم الذي كان يطوله كلما كان على وشك الإنجاز، فضحّى بإبنته ليكتمل الجسر الذي سيعبره زينفون سنة ٤٠٥ قبل الميلاد، ويُقام قربه تمثال لأياز يوسف قبل سنوات، وستقول الأسطورة اللاحقة بأن أياز يوسف ( ١٩٦١- ١٩٨٦ ) كان ملازم أول حين أدّى الخدمة العسكرية وأنه رفض أن يُغنّي لصدّام حسين فحُبِسَ وحُقِنَ بإبرة مات على إثرها شاباً لم يتجاوز الخامسة والعشرين.

لَوَندْ

صباح الأربعاء ١٣ تشرين الثاني ٢٠٠٨ رأى أحد أصدقاءه سيارة لَوَندْ يقودها رجل ملتحي بسرعة جنونية وتصطدم مراياها بالسيارات المتوقفة قبل أن تتوقف في منطقة مهجورة بضاحية قدسيا بدمشق.
السيارة كانت قد انطلقت من أمام المنزل بعد دقيقتين من امتداد الحريق الذي نتج عن اسطوانة الغاز إلى أجزاء منه، واسطوانة الغاز تم فتحها لإحراق جثة لاوند بعد أن طعن بسكين حادة في الرقبة.
وثم سيتم ترميم الجريمة بالنقصان ليبدو كل شيء على مايرام: يظهر القاتل المقبوض عليه مذلولا مشاراً إليه بالأحرف في أضابير الجنائية  ليدّعي بأنهما كانا معا في الليلة السابقة في مطعم بجرمانا وأنه أقدم على ما فعله ليسرق رغم أن ما سرقه لن يتعدى ١٢٠٠ دولار ولابتوب وكاميرا ديجيتال وجهازي موبايل.
حتى ذلك الوقت كان قد مرت ثماني سنوات على تأسيس لاوند فرقة الرماد  التي قدمت (خلق) ٢٠٠١، انعكاسات ٢٠٠٣، رحلة جسد ٢٠٠٣، تمرد العقل ٢٠٠٤، صمت الحواس ٢٠٠٥، ستلمس أصابعي الشمس ٢٠٠٧، وعروضا مشتركة أخرى في قطر ولبنان وهولندا حصل خلالها على شهادات وتكريمات وجوائز منها جائزة( الراقص المميز) في الصين والميدالية الذهبية في اليابان ١٩٩٧ وسجل اسمه كأول من احتفل بيوم الرقص في سوريا الذي تحول معه إلى طقس يتكرر كل عام في التاسع والعشرين من نيسان  بعروضه التي أنجزته فرقته ( لم تسجل من قبل نقابة الفنانين كفرقة للرقص) بالعناد متجاوزة ذهنية التحريم والريب من العامة والخاصة للرقص والجسد إضافة إلى الموافقات الإدارية المزيلة بالتواقيع والأختام والأوامر التي لا غاية منها إلا التعجيز: نزّلو الأجور، قدّم كتاب تاني، والكتاب مو ظابط، والوزير مو فاضي.
لوند الوسيم بالكردية، ذو القد المشدود، ابن عائلة حاجو التي حاربت الفرنسيين والأتراك، ظلت الشكوك تحوم حول مقتله في ذلك اليوم الذي كان من المفترض أن يحضر فيها إلى مقهى هاڤانا من أجل حوار مع تهامة الجندي حول عرض( كشف) الذي سيقدمه بعد أسبوع واحد.
تكتب تهامة بأن الشائعات أخذت تسري بعدها عن الشذوذ، عن تورط الأهل، وعن العاشق الذي يقتل غيرةً، وثم تضيف:
وحين تناقل البعض أنه كان على علاقة مع أحد كبار المسؤولين، صمت الجميع وكأن الجريمة لم تقع أبداً.

عن الشعراء الأكراد السوريين: يوسف بزي

منذ سنوات قليلة فقط عرفت أن الشاعر الكردي شيركو بيكه س، الذي أقرأ قصائده منذ الثمانينات، لا يكتب بالعربية بل بالكردية. استغربت ذلك طالما أن قصائده بدت لي دوماً ليست أجنبية ولا تحمل طابع الترجمة، بل هي متصلة فعلياً بالمناخ الشعري العربي واتجاهاته وحساسياته اللغوية، وكذلك موضوعاتها كانت باستمرار تتّسق وموضوعات الشعر العربي، والعراقي منه خصوصاً. ما انتبهت إلى أي فارق بين شعره والشعر العربي على الرغم من خصوصية مقاربته للبيئة الجبلية الكردية وللغنائية الريفية المترعة بالحزن الكردي. ويمكن القول إن تأثراته بالتجارب العالمية مشابهة لتأثرات الشعراء العرب، أي انه يشاركهم البيئة الثقافية نفسها.
كل هذا جعلني أظن أنه شاعر بالعربية، وعلى الأرجح، اعتبرت عن خطأ انه يكتب بالعربية لأنني اعتدت ان أقرأ كل الشعراء الأكراد الآخرين مدركاً، عن صواب هذه المرة، انهم يكتبون بالعربية، وهم يكتبونها ببراعة استثنائية على كل حال منذ انفجار سليم بركات المدوي في الشعر العربي الحديث.
التقيت بشيركو بيكه س في السليمانية في ربيع العام 2006، برفقة عباس بيضون ومحمد أبي سمرا، وكان هو يستقبلنا كأصدقاء قدامى، وكان سعيداً في مدينته وعمله حيث يتولى إصدار مجلة ثقافية مرموقة ويدير مركز «سردم» النشط مبتهجاً وهو ينجز بحرية كياناً ثقافياً كردياً لا خطر عليه ولا حظر. ما انتبهت إليه حينها أن المجلة كانت ثنائية اللغة كردية وعربية. بدا ذلك لي تسامحاً فائضاً وأكثر من اللزوم. إذ لا أعرف مجلة عربية، عراقية أو سورية مثلاً حيث نسبة معتبرة من سكان البلدين هي من القومية الكردية، تحتفي باللغة الكردية وآدابها او تخصص صفحات لها.
وأغلب الظن أن الأمر ليس تسامحاً بالضبط، بقدر ما هو انتباه ثقافي من قبل شيركو بيكه س وزملائه بأن المجال الحيوي للنتاج الثقافي الكردي العراقي لا ينفصل عن الثقافة العربية ومقروئيتها. وبمعنى سياسي، فان ما أسميته «انتباهاً ثقافياً »  هو قناعة كردية بوجوب «الاستقلال» من غير «انفصال» إذا صح التعبير.
فالثقافة الكردية المغتنية بلغة القرآن وبالثقافة العربية الحديثة، التي اجترعتها قسراً حيناً وطوعاً أحياناً أخرى، قد يشوبها النقص أو الخلل إن انقطعت عن هذا التواصل الحيوي، وفي الوقت نفسه فإن استقلال الكينونة الثقافية الكردية لا بد أن يسهم في إضفاء ألوان «نيروزية« على الثقافة العربية، العراقية والسورية منها خصوصاً.
هذه الألوان «النيروزية» هي اليوم الإشعاع الشعري الأبرز في سوريا مثلاً. فبعد الصرخة الباذخة لسليم بركات، حيث تدفقت على يديه اللغة العربية بوفرة هائلة ومدوخة، جاء محمد عفيف الحسيني ومحمد رشو وجولان حاجي وعلي جازو وعارف حمزة، وأخوه حسين بن حمزة وابراهيم حسو وكاميران حرسان ومروان علي ولقمان ديركي وطه خليل وجميل داري ومحمد نور الحسيني ولقمان محمود ومنير خلف ومها بكر وآخين ولات وأديب محمد وعبد الرحمن عفيف اضافة إلى مقداد خليل ونوح ابراهيم ومناف محمد وجوان تتر وريبر يوسف وخوشمان قادو وأمير الحسين وعماد الدين موسى وأوميد عبدو ومصطفى محمد الذي انتحر في حلب منذ سنتين.
انهم أكثر من رعيل واحد، وأكثر من جيل واحد. انهم شعراء بعدد يكفي بلداً كبيراً. وهم يشكلون اليوم في تجاربهم ونتاجهم أفضل الأصوات الشعرية الحديثة، وهم في مقدمة المشهد الشعري السوري. جميعهم أكراد وجميعهم منغمسون في الحياة الثقافية السورية العربية، لا كمستعربين ولا كعروبيين، لكن كأبناء ثقافة اوسع من القومية وأبعد من الحدود الوطنية. وتجاربهم الشعرية الأصيلة ليست على ضفاف الشعر السوري. انها في نواته، وفي مقدمته.
من الحسكة والقامشلي ودير الزور، من الجبال ومن السهوب، من هناك أتت تلك القصائد، التي نحتفي بها في بيروت وفي دمشق وبغداد وحتى في القاهرة. ولا أدري على أي حال سيكون الشعر السوري من غير هؤلاء لكن بالتأكيد قليل الألوان.
تلك الألوان بالذات كانت طوال الحقبة البعثية المديدة، مصدر خوف ومصدر ضغينة ورهاب أيديولوجي. لقد جاءت «العروبة» الأيديولوجية» بوصفها مشروعاًَ فاشياً واقصائياً وشوفينياً، ونشرت القحط والقمع والمنع والعنصرية. وكانت حصيلة «العروبة» البعثية تحديداً تصحراً مجدباً للحياة السياسية والاقتصادية وتدميراً ممنهجاً للنسيج الاجتماعي وافقاراً متعمداً للثقافة الوطنية: كره الأجنبي، كره التنوع الإثني والديني، كره اللغات الأخرى، كره الاختلاف والتعدد… ذاك ما أطاح أحلام النهضة واجهض طموحات الشعوب بالازدهار والتقدم.
في ظل هذه «العروبة» الشوفينية، ومع ذاكرة الاضطهاد، كان الشعراء الأكراد السوريون يحملون جرحهم إلى اللغة العربية ذاتها، ليمنحوها الألوان الشافية، والبريق الانساني. كما لو أنهم في فعلهم هذا يصوغون رداً باهراً على من أراد لهم نسيان لغتهم الأم وفلكلورهم وخيالهم. فمنحوا كل هذا للغة العربية كي لا تكون قاحلة وخشبية، بل لتكون مثلهم قلقة ومعذبة وصافية مثل ينابيع الجبال.
لكن هؤلاء الشعراء الأكراد في سوريا، حيث سياسة التعريب جعلتهم شعراء بالعربية، يواجهون اشكالية هوية أو تشكيكاً في الانتماء.
فرسمياً هم «شعراء سوريون» وكفى (وفق مبدأ انكار الهوية الكردية)، وهم في نظر غالبية الأكراد لا يكتبون شعراً كردياً لأن هوية الشعر تتحدد في نهاية المطاف باللغة التي كُتب بها. وهم أنفسهم يصرون على كرديتهم بلسان عربي، وينظر اليهم الكثير من أندادهم العرب السوريين بوصفهم شعراء مستعربين.
هذه هي فرادة الشعراء الأكراد السوريين، هذه هي غربتهم وحيرتهم الخاصة ومعضلتهم، التي منها وعنها تنبثق لوعة قصائدهم.

جريدة المستقبل 10-6-2012