مفقود

في حكاية شعبية من تراث الفرات تفسر طيران الطيور كلها باستثناء الدجاج، يحكى أن الطيور اجتمعت ذات يوم، وقالت: سنطير غداً إن شاء الله! لكن جد الدجاج قال: سنطير غداً إن شاء الله أم لم يشأ. وهكذا طارت الطيور كلها في اليوم التالي إلاّ الدجاج!
الحكاية وثقها وحكايات أخرى كثيرة في غرامه مع الموروث الشعبي محمد جاسم الحميدي (1954 – 2016) الذي كتب قصصاً، روايةً، رواية أخرى لم تطبع وضاعت في انتظار الموافقة، وسوى ذلك فعل ما يمكن أن يفكر فيه الكاتب في القن السوري، انتسب إلى اتحاد الكتاب العرب، وصار يقوم بما كان يقوم به الآخرون في القمقم العصي على الفهم، يدفع اشتراكاته السنوية، ينشر في (الأسبوع الأدبي) و(الموقف الأدبي) التي لا يقرأها أحد سوى من تُنشر مقالاته، يصعد ويهبط في أروقة مباني الاتحاد الكئيبة، يحضر الأمسيات التي تليق بالروايات الكابوسية حيث الكراسي المصفوفة للأدباء العجائز المتحذلقين، «الشعراء» و«الروائيون» و«القصاصون» و«الصحفيون» يتحركون بعناية ومكر في الممرات، الضباط المتقاعدون الذين انتبهوا متأخراً لمواهبهم متكئين على كتف كتّاب كان يقضون الخدمة العسكرية تحت إمرتهم، أساتذة الأدب العربي الخليط الغريب من الموهبة الضحلة في النقد والكتابة، يتبادلون التحيات الجافة والابتسامات البلاستيكية، يثرثرون عن العزلة دون أن يجدوا وقتاً للكتابة، يقبضون مكافآتهم عند المحاسب، ويكيدون لبعضهم في صيد الغنائم، في التفرغ ومنح السفر والصعود إلى المكتب التنفيذي والسيارة والسند، وكان محمد محظوظاً بل محنكاً لأن يصبح مدير جريدة الثورة في الرقة (الثورة إذن، عتيقة في سوريا) وفي الوقت نفسه مدير جريدة الفرات، وثم فاز بمنصب رئيس فرع الاتحاد في مدينته الرقة، لكن الحنكة درجات، فالرفاق في فرع الحزب استدعوه وأخبروه أنه ليس بعثياً ثم اختاروا آخر أو أخرى أكثر حنكة.
كل شيء كان على ما يرام في عالم اتحاد الكتاب العرب، أعتى منظمة ضد الكتابة وأشدها شراسة في ترويض الكتّاب، كل شيء كان مرتباً بعناية سوى الكتابة، الكتابة كانت في مكان آخر، وأهم ما أنجزه الاتحاد منذ نشأته في 1969 هي مطبوعاته التي لا تصلح سوى كدلائل دامغة على حياة الحظيرة ووثائق للإدانة ضده.
مع الحرب انقلبت الأمور إلى جهات لم يتوقعها أحد، وعاد السوريون إلى أحياءهم، قراهم، عشيرتهم، عائلتهم، ومع سيطرة داعش على الرقة 2014 انزوى محمد في بيته بالرقة لسنتين، أحرق خلالها خشية الشبهة كل مخطوطاته وكتبه ومكتبته كاملة، وبقي فيها حتى بداية 2015 حيث انتقل للسكن في حماه مع ابنه فراس.
خريف ذاك العام غادر الى دمشق لمتابعة اجراءات التقاعد في جريدة الثورة، وضاع هناك في شوارع دمشق، فقد ذاكرته، فقد عقله وساءت حالته حتى أن أحد أقاربه لم يكن يسمح له بالخروج من المنزل، وفي منتصف أكتوبر لم يعد يعرف عنه أي خبر، وقام الأهل بالدعاء له بالسلامة وطلبوا المساعدة عبر الهواتف والفايسبوك وتحت جسر فكتوريا علقت صورته وتحتها:
مفقود.
في 12 نوفمبر 2015 عثر عليه مكبل اليدين والرجلين، مصاباً بالكدمات في أنحاء جسمه بعد أن كان قد خطف من قبل مجموعة ما، مجهولة، لم يجدوا معه ما يستحق فرموه في أحد الأبنية المهجورة.