ثمّ إني لستُ متوحشاً

1523962_10152030724044927_1160155637_o

 

ظهيرة ذلك الخميس حضرت شقيقته والتقت أبو الخير خلف مقهى القصر وطلبت منه أن يضع حبة الدواء في الماء، وأخبرته أن الأستاذ يمتنع عن أخذها في البيت، فما كان من النادل سوى أن ردد، إيه مو تكرمي، على عيني خانم، ولذلك حين جاء لؤي في المساء وجلس إلى طاولته التي تعلوها ثلاثة من أعماله المعلقة التي كان يبيعها بمئتين من الليرات، حتى أسرع أبو الخير يجهز فنجان القهوة وكأس الماء الذي فتل الحبة فيه ثم تقدم مبتسماً ووضعهما أمام لؤي الذي كان يحدق شارداً في الفراغ الذي بدا لانهائياً في شارع بارون وخلف العبارة، لكنه كان يقظاً أيضاً وما إن قرب الماء من فمه حتى شم الرائحة التي لا يخطئها، رائحة الدواء، وفي ثانية أدرك ما دُبّر فصرخ على أبو الخير ودون أن يقول أي شيء صفعه على وجهه ثم استدار وغادر المقهى ليغيب ساعة من الزمن ويعود بعدها وهو يحمل معه لوحة، قبّل أبو الخير في جبهته، طلب منه ألا يفعل ذلك مرة أخرى وأعطاه اللوحة، ولم يجلس ليتناول القهوة التي أصر عليها أبو الخير بل خرج هابطاً نحو مطعم حنا كعده، تعشى على المازيات وحسب وبقي يشرب ببطء مر ليقوم بعدها إلى الطاحونة الحمراء على بعد عشرة دقائق، كانت روحية عبد الخالق في منتصف وصلتها، وكانت قد وصلت إلى حيث تقول:ما تصبرنيش بوعود، وبينما كان يسحب كرسيه من وراء الطاولة التقت عيناهما، فأومأت له بوضع يدها على ثديها الأيسر وأومأ لها بإغماضة العينين فأخذت تردد ” وأهيه غلطة ” بما يفترضه الأداء من إظهار اللاحتمال والألم والعجز وكل ما يعني الضيق لكنها لم تستطع أن تمنع نفوذ فرح خفي إلى صوتها ابتهاجاً بحلوله في مكانه حيث أعتادت فهدج صوتها وهي تتبع ” إنما للصبر حدود ” ب: يا حبيبي.
عبثاً كان يحاول أن يهدأ، وضع ساقاً على ساق مطبطباً بيده اليمنى على فخذه، لكنه لم يستطع أن يمنع نفسه أن يشهق شهقات طويلة ويزفر من فمه، شرب كأس أمبيت على دفعتين، ثم أرتدى جاكيته على عجل وقام، تابعته روحية وهو يمر بين الطاولات تاركة اللحن لتقاسيم القانون، ودارت بكامل جذعها وهي تراقبه يصعد الدرج ويختفي، وصل إلى فم الملهى ونظر على امتداد شارع القوتلي شمالا حتى باب الفرج، يميناً وللأعلى حتى السماء فوق ساحة سعدالله، كان الهواء قاسياً وكان صوت روحية من الخلف يردد بأسى لا ضابط له، ليل يا ليل، لحظتها بدت حلب بلا جهة وبجهات كثيرة تتشابك مع بعضها البعض، تلتف وتختلط وتمر وتتوه وتفترق وتدنو وتنتهي لتجتمع في جهة واحدة لا تدل على أي مكان.
كانت الأشجار في الحديقة العامة حجرية ورمادية تحت الغيوم المتقطعة التي أطبقت على السماء من الغرب حتى شرقها، وحين وصل مقهى القصر ثانيةً كانت أعراض الزكام ظاهرة تماماً، وحين بدأ يمشي في شارع القوتلي كان يدنو من ليلة الحمّى التي أدخلته في ممرات الميوعة، كان بحاجة إلى أي شيء ليثبته في مكانه، كان جسده تحول إلى لا شيء، خفة على خفة، الواضح كانت الحرارة، القشعريرة، ألم منتصف الظهر، ألم الركبة، كان بحاجة إلى الماء، الماء، التقلب على الجنب، الانثناء، وكانت البكرات تنفلت ولا تنتهي، وكان لسانه معقوداً بصمته، بسُمّ ما كان يضمره، لكنه كان يهجس في كلّ شيء سواه، ما يعرفه وما يجهله، ما يتذكره، وما يفكر به.
لم يكن الوالد بالبيت، كان في مكتبه بدائرة الكاتب بالعدل، كانت الوالدة ترتدي فستاناً طويلاً منقطاً تحت الملاية وبدت ساحرة بهيئتها، جميلة وطويلة وكئيبة بعينيها المكحلتين، تماماً كما بدت في اليوم الذي ألبسته جوارب بيضاء وكلاشة جلدية لامعة وزررت له قميصه الصغير حتى آخره لتصطحبه معها إلى استديو المصور مجلسةً إياه على كرسي لا مسند له، كانت بكامل رائحتها القديمة، اقتربت منه وحطت يدها اليمنى على جلد الرقبة لتمسحه براحتها حتى العنق فحتى خده الأيمن وثم اخذت وجهه بين يديها ودفنته في صدرها قبل أن تبعده قليلاً لتقول وهي تنظر في عينيه:
ماما لؤي، إش عم بيصير معك.
فبدأ يبكي لكنها لم تنتظر عليه كفايةً إذ استدارت واتجهت لترتب علياء وزليخة اللتين كانتا تضحكان، ثم انتبه لوجود غالية أيضا ً التي كانت جالسة على يساره دون أن تفعل شيئاً، فعرف أنه كان يحلم رغم أن ذلك لم يغير في الأمر شيئاً، في أنه على وشك أن يختنق من اللاشيء.
في النهار الذي تلى راهن على آخر وهمٍ لديه، على خدعة الحنين، لم يخطئ إذ نظر للخلف، لكنه شاء أن يحتال على نفسه، على اليأس من الحياة بتوهم الحياة في مكان آخر مرّ فيه زمن مضى،
بجردة حساب خاطفة لم تكن قد بقيت أمامه سوى إيطاليا التي وصلها أول مرة في 1956 موفداً دراسياً إلى أكاديمية الفنون الجميلة بروما، كان يشعر بحرقة هائلة أعلى المعدة خفف منها لحظتها حنين بارد إلى روما نفسها، إلى فينيسيا وميلانو، إلى لافونتانيللا ولابيناله وكايرولا حيث أقام معارضه الشخصية التي أسست لمجده الذي لم يعد يعني له شيئاً البتة،
حزم أمره خلال ساعات وخلال أيام معدودات من كانون الأول ١٩٧٧ كان قد باع بيته وكل ما له وغادر إلى إيطاليا ليمكث فيها أقل من ثلاثة أشهر محبطا ً منها أيضاً وليعود بعدها في شباط ١٩٧٨ إلى حلب حيث العزلة الصفراء وحدها، العزلة التي لا حياة فيها، ولا حياة خارجها،
كان يمكث في غرفته، لا يبرحها، يدخن بشراهة وينام معظم الوقت، ولم تعينه على وطء الأيام حتى الخريف سوى الحبوب التي بمشقة كانت تتكفل بتأخير ما كان ينبغي أن يحدث وقتها.

 

%d9%84%d8%a4%d9%8a-%d9%83%d9%8a%d8%a7%d9%84%d9%8a-%d8%a3%d8%b3%d8%aa%d8%a7%d8%b0%d8%a7%d9%8b-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d9%87%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d9%84-%d9%84%d9%84%d9%81%d9%86
في أوائل الستينات أنجز لؤي كيالي بورتريها لليلى إبنة ألفة الإدلبي ما يزال معلقاً في صالة الاستقبال ببيت العائلة بحي المهاجرين، وفي ربيع ١٩٧٦ وبينما كانت مسافرة إلى حلب حرصت أن تزوره في مرسمه وحجزت لنفسها ” عازف العود “، في العام نفسه يحاوره صديقه صلاح الدين محمد في مقهى القصر عن الفن والنساء والمرض، يبدو كمن يعبر نقاهة غير مؤكدة ولكن مستكيناً ودوداً وحكيماً يعرف تماماً ما يقوله دون تبجح وتصنع، ” التأمل ليس وجوماً وإنما حركة داخلية ” و”من الطبيعي أن تعاطفي مع بروغل وميليه وڤان كوخ ومودلياني هو كتعاطفي مع كل إنسان عبقري أو مع كل إنسان بائس”، وحين يلجأ صلاح الدين إلى المجاز والاستعارات لتوصيف حالته: “أراك أحياناً في منتهى الصفاء الانساني ملاكاً هادئاً كصباح صيفي، وأحياناً كالصقر في لياليك العاصفة، هل لك أن توضح “، يوافق لؤي صديقه: “رؤيتك لي بهذه الصورة الجميلة صحيحة”، يفكر لحظات في قبح “الجميلة” التي نطقها ويود لو يبصقها لكنه يبلعها كمخاط قليل لا يؤذي، ويضيف وهو يهز برأسه بشكل لا إرادي: “وليس هناك ما يدعو للتوضيح”.

قررت العائلة أنه قد أصبح مجنوناً بشكل ما، فطلب عمه الطبيب طه اسحق كيالي في 30/5/1970 إحالته الى مشفى الدويرنية للعلاج من داء انفصام، وفي 6/3/1973 قرر الطبيب بشير الكاتب بأن يوضع في المستشفى تحت الرقابة الطبية في المستشفى بناء على طلب مقدم من عمته قدرية، وأيضاً كان قرارالطبيب عبد الخالق سلطان بناء على طلب آخر من صهره في 3/3/1973 الى مدير مشفى الأمراض العقلية بحلب.
في صبيحة 10/9/1978 التي تلت الليلة التي احترق فيها دخل عليه حامد بدرخان وصلاح الدين محمد وأنور محمد في غرفته بمشفى الجامعة بحلب، قال مخاطباً أنور: أنا لم أنتحر، وأضاف وهو ينظر إلى لا شيء: ثم إني لست متوحشاً.
في تلك الليلة التي سقطت السيجارة من يده وأصابته في ما بين السرّة والفخذين، كان قد تناول حبَّة فاليوم لتساعده على النوم، وكان قد مرّ وقت طويل على ذاك اليوم الذي وصلت فيه أمل وهي ترتدي تايّور غيبور أبيض ليشاهدا فيروز في مسرح المعرض بدمشق، خرجا ليلتها من المسرح، وأَقلّها بسيارة حتى البيت، وقال لها: “لا تحسبي أني لا أعرف بماذا تفكرين”، وثم بحدّة غير مفهومة: ” لن أقول لك شيئاً الآن، ولكن عمّا قريب، في هذين اليومين”.

” لؤي كيالي كان مجنوناً طوال سبعة أعوام ١٩٦٧-١٩٧٣ ، يجب أن لا نخفي هذه الحقيقة من حياته ” ويضيف ممدوح عدوان في المقدمة التي كتبها للكتاب الذي أعده صلاح الدين محمد عن لؤي كيالي:
“بل يجب أن نعلن عنها ونشير إليها بإعتزاز ” .
المقدمة صارت شيئاً آخراً ” دفاعا عن الجنون” أما الكتاب فلم يصدر ويقال أن مخطوطه ضاع في أحداث بيروت في الثمانينات.”
سوى الكتاب نشر صلاح الدين في الملحق الثقافي بجريدة الثورة في ٣/١/١٩٧٩ مقالته: “مأساة لؤي كيالي من البداية وحتى النهاية، كفنان وكإنسان “، ومما رواه ، ما حدث للؤي حين فقد الإيمان بكل شيء وأنهار تماما، وكيف حاولت العائلة أن ” تنقذه”.
يتكلم لؤي ويسجل صلاح الدين:
” لم أبع بالطبع من معرض (في سبيل القضية) و لو لوحة واحدة، بل مزقتها جميعاً، ومررت بلحظة إفلاس كاملة، وكان معي عشرون قرشا حينما جلست في مقهى الهافانا وأنا جائع منذ يومين، كنت أنتظر إنسانا لا أعرفه، ولكن أحدا لم يأت، كنت بحاجة إلى فنجان قهوة، وسيجارة فتركت العشرين قرشاً على الطاولة وغادرت، وتذكرت بأني قد رسمت عدة لوحات رائعة للمسيح فتوجهت إلى الكنيسة لأقابل أحد القساوسة وانتظرت طويلاً حتى جاء ليوعدني إقراض مبلغ غداً، ولكني لم أرجع، وتذكرت بأني رسمت لوحة عن اللاجئين الفلسطينيين عرضت في كثير من دول العالم – ثم ماذا؟ 1965 – فتوجهت إلى منظمة التحرير علني أحصل على عقد فأخبرت بأنه علي الانتظار لأن الأمر يحتاج إلى ترتيبات معينة .. فغادرت إلى الفندق البسيط في المرجة وعلي ديون مستحقة من صاحب الفندق ولا يقدمون لي القهوة أو أي شيء آخر، وفي صباح اليوم التالي وأنا أغسل وجهي، قدم رجلان طلباً نقلي إلى بيت عمتي في حلب، فاعتذرت فأجابا بأنه لا موجب للاعتذار ويجب أن تغادر معنا فوراً ودون أية مقاومة، فطلبت منهم أن أشلح بيجامتي فرفضوا وساقوني إلى السيارة ووصلنا إلى حلب حيث يقع بيت عمتي قرب الطريق العام – بستان زهرة – ولما مررنا بالقرب من المنزل قلت لهم: أشكركم لقد وصلنا فقالا بأن هذا ليس بيت عمتك، إنك لا تعرفه، ونحن سندلك عليه.”

 

11817278_10152574570222168_1960646502819725317_n

 

كان لؤي كيالي في سنواته الأخيرة يذهب كل يوم خميس إلى (الطاحونة الحمراء) في شارع القوتلي ليحضر الحفل الذي تقيمه روحية عبد الخالق، ويذكر أنور محمد أنه أحرق خمسمائة ليرة من أجلها، ويؤكد أنه كان يحبها، وأنه أستفزه يوما ما: لم تكن مثل ڤان كوخ، لم تفعل شيئا، لم تهديها حتى وردة، فنهض لؤي على الفور واقفا وسوى بنطاله، أشعل سيجارة أخرى وقال: هل تريدني أن أقطع أذني، هل يروق ذلك؟
لؤي كان كقدح الماء، أي شيء يمكن أن يعكره، يصفه سمير الطحان الذي اصطحبه ذات خميس إلى النادي، ويتكلم بإندهاش عن العلاقة الخاصة التي كانت بينهما:
لم تكن روحية عبد الخالق تظهر على المسرح حتى تتأكد أن لؤي جلس إلى طاولته، وكانت تنظر في عيني لؤي فتعرف أي أغنية يريد أن يسمع.

تختتم أمل خانجي مذكراتها المخطوطة حسب ما يذكر فاضل السباعي: “لأول مرة أراه، وهو شاحب الوجه، مرهقاً، وكان مهذّبًا كعادته، باردَ التهذيب، صامتاً لا يتكلم، حتى كأنه غير موجود، وعندما أوشكنا أن نذهب، طلب من أخته أن تُقدِّم لنا عصير البرتقال.”
ثمّ تتوقف قليلاً الشابة، ابنة السفير، القادمة من باريس كي تقدم امتحانها في جامعة دمشق في1963 وتقع في الحب وليقع معها لؤي كيالي ذات يوم، وتضيف في الورقة المؤرخة في 13 حزيران 1967: “ومرّت الأيام …. رأيته في حلب جالسًا في مقهى صغير، مررت من أمامه، لم يرني، لم يكن يرى أحداً. خرج من المقهى، نظر إليّ طويلاً، ثم مضى.”

Aristotle with a Bust of Homer

image

كان أرسطو يقرأ: «أيتها الربّة، أنشدي ترنيمة الغضب» ثم أخذ يتأمل الصدفة َ وكيف أنها وحدها وليست المعرفة بالصُنعة من تقود الشعراء، وكاد أن يبكي حين جعل رامبرانت يده الخفيفة على رأس تمثال نصفي لهوميروس،
فيده الأخرى كانت ثقيلة في الأكمام الفضفاضة تمسك بين إصبعيها ذكرى، سلسالاً ذهبياً علقت في منتصفه ميدالية عليها رأس الإسكندر،
طوال الليل رأى الأعمى كلّ شيء، و « كل الآلهة وكل الرجال كانوا نائمين طوال الليل »،
رامبرانت نفسه كان عجوزاً حينئذٍ واكتشف في آخر حياته أن الأسئلة خُلقت لتضيء لا ليأتي أحدنا ويخذلها بجوابٍ ما يعتم حولها،
في سيرك الحياة سيتأرجحُ المحارب والشاعر والفيلسوف، يبكون وثم يضحكون حين يفكرون في سيرك الحياة،
الأرض ستبقى صالحة ًلأخطاء البشر فيما السماء ستمتد ّ حجرات ٍ فسيحة تلائم نوم  الآلهة، وبينهما سلّمٌ طويل تظل ّالأسئلة تلتمع عليه، سلّم ٌ لا أوله مسند ٌعلى شيء من الأرض ولا آخره يلمس شيئاً من أول السماء.