الإمبراطور

في لحظة سُكرٍ في فندق “بارك” حنّ إلى الأغاني التركية القديمة فأمر باستدعاء نورالدين سلجوق الذي غنى له حتى أطربه وبل يقال حتى أجهش بالبكاء وابتلت عيناه الخضراوتين ليصدر بعدها أمره بالسماح للموسيقى الشرقية والأغاني التركية أن تُذاع من الإذاعات التركية من جديد بعدما بقيت محظورة لسنوات.
مصطفى كمال، أتاتورك أراد قطيعة مع الإرث العثماني، حالماً بدولة قومية حديثة تكون الموسيقى الغربية فيها مثالاً للتحضر الفني.
لكن بعيداً عن الإذاعة ومجالس النخبة، في العالم السفلي من إستانبول، في المقاهي والكباريهات، وفي الباصات والتكاسي، ولد الأرابيسك، موسيقى الفقراء والريفيين والمهاجرين، موسيقى الغربة والحسرة والهجران، صوت العاطفة النقي والهش، موسيقى القدر الظالم والحب المستحيل.
وفي 1977 ظهر في إستانبول إيبو الذي كان قد سبق قبل سنتين أن أصدر ألبوماً لم يلتفت إليه أحد، ليغني Ayagunda kundra وليصبح من لحظتها نجم الأرابيسك إلى جانب أورهان گنجوباي وفيردي تيفور ومسلم جرسيس وحقي بولوت وآخرين.
بقي الكماليون يعتبرون الموسيقى الكلاسيكية الغربية هي الموسيقى الوحيدة التي تعكس الروح التركية محتقرين الأرابيسك كونها فاسدة ذات أصول شرقية، نفر منها أيضاً المثقفون وأبناء الطبقات المتوسطة كونها ابنة الكباريهات، فيما أخذ عليها الثوريون أي اليسار التركي كونها موسيقى العجز والاستسلام والخنوع ليتجاوزه في ذلك اليسار الكردي الذي لم يرَ فيه سوى عمالة وخيانة للموسيقى الكردية وبل وسيلة من وسائل ” الحرب الخاصة” ضد الأكراد كما كان ينظّر عبد الله أوجلان حينئذ.
لأكثر من ثلاثين سنة ظلّ إبراهيم تاتليسس (1952) المهاجر من أورفه، الكردي، المعدم، صاحب الحنجرة الذهبية، يغني ويمثل في أفلام غنائية ويصدر الألبوم تلو الآخر مكتسباً لقب الإمبراطور، وليعمل مع غيره من المغنيين على إعادة تشكيل الذوق الموسيقي التركي، وليصبح مع مرور الوقت من أغنياء إستانبول، من سكان سيران تبه، سيداً على إمبراطورية أخرى من أعمال السياحة والأزياء والفنادق والمطاعم في استانبول وبودروم وعموم البلاد وصولاً إلى أعمال البناء والتعمير في كوردستان العراق قبل أن توقفه في 2011 رصاصة في الرأس محاولة اغتياله إثر هجوم مسلح عليه في قضية تصفية حسابات في عالم المافيا.
ينجو من الموت بشللٍ نصفي في الطرف الأيسر، يتوقف برنامجه الشهير Ibo show حيث كان يغني ويرقص ويهرّج ويستضيف نجوم الغناء والرقص، تظهر عليه علامات التقدم في العمر، بالكاد يمشي ويقف، لكنه رغم ذلك يصر على البقاء ولو في مشهد مختلف وصورة أخرى، رجل الأعمال المحاط بثلة مرافقين، صاحب الميراث الكبير الذي يصر الرئيس رجب طيب أردوغان أن يرشحه كنائب عن مدينته أورفه ضمن قائمة حزبه وأن يصطحبه في 2013 إلى اجتماعاته مع مسعود البرزاني رئيس إقليم كوردستان الذي يصطحب هو الآخر مغنياً آخر صاحب ميراث آخر، من أكراد تركيا ومن أورفا أيضاً لكنه لم يكن قد زارها ممنوعاً منذ سبعة وثلاثين عاما،ً شڤان پرور (1955)، في مشهد زاخر بالدلالات.
في منزله بسيران تبه، يظهر مع زوجته الأخيرة آيشه جول يلدز التي تزوجها أثناء نقاهته في المستشفى بعد حب دام اثنتي عشر عاماً، يحضر أصدقاء مقربون، يحضر بكره أحمد من زواج آخر وابنته ملك زبيدة، والحفيدان، سيسافر إلى أمريكا لإجراء عملية أخرى في الرأس في سلسلة عمليات، يلتفت إلى المصور مشيراً إلى ابنته الصغيرة أليف، يقول في دعابة مرة، يدرك هو الإمبراطور درجة مرارتها أكثر من غيره:
قم بأخذ صورة مع جميلتي أليف، بما أنني أرحل، ربما لن أعود أبداً.

سرحد

تبقى ” الشهادة ” ربما نظيفة حين يكون العدو واضحا،( كيف يكون واضحا ؟) أما في الحروب الأهلية فتغدو المفردة الأكثر استعمالا والأكثر شبهة وثم الأكثر ابتذالا.
مرارا جرب الأكراد الحروب الأهلية في نسخة فوتوكوبي تتكرر من فترة الإمارات الكردية حيث انقسمت بين الولاء للعثمانيين والصفويين وللآن وستبقى.
في فترة 1994-1997  دخلوا جميعا من الديمقراطي والاتحاد والعمال بمباركة من دول الجوار في حرب خلفت 3000- 5000 قتيلا، وثم حين حلت أيام السلم النسبي لاحقا بل الرخاء أيضا في كوردستان العراق لم يتغير شيء إذ بقيت ” الشهادة ” الأيدلوجية الوحيدة التي تراهن عليها كل القوى الكردية فلا أسهل من تمجيد الموت في بلاد تفتقر إلى أدنى حياة وأدنى مفاهيم عن التنمية.
في 16/6/1997 وقعت مجزرة هولير وراح ضحيتها 83 شخصا من نساء وفنانيين واعلاميين كانوا يعالجون في مشفى بأربيل ( هولير )  فكتبت الشاعرة دلشا يوسف التي فقدت شقيقتها روز الأغنية الشهيرة التي غناها سرحد فيما بعد ( هولير ).
سرحد (1970-1999) نفسه كان قد تخرج للتو من كونسرفتوار إزمير ويغني باللهجات الثلاث: الكرمانجية والصورانية والزازائية حين غير اسمه من ( سليمان آلب دوغان ) والتحق بالقتال مع زوجته ليأسر لاحقا من قبل الجيش التركي في 10/7/1999 وليعدم وثم ليلقى جثمانه كما يقال من حوامة تركية دون أن يترك خلفه سوى صوت ارتطامه بالهواء، وألبومه الوحيد الذي غلبت فيه رداءة التسجيل على نقاء الصوت وعمقه: هولير.