كليك

12768164_1207006105994706_5856852517581429779_o

(Helene Crecent (France

أستغرقت ثلاث ساعات وأربعين دقيقة في باصين وثلاثة قطارات من كمب خيلزة على حدود بلجيكا حتى وصلت المكتب في آلكمار شمال أمستردام، المحامي يبقى محامياً، والمكتب هو المكتب أينما كان، الملفت كان وجود نباتات الزينة بكثرة، ومن ذات الأصناف الموجودة في حلب، كف الدب، النخلة، المكحلة، الصبار وكان صباراً صغيراً عليه خط كحلي ويتخذ شكل حرفي K وF، كانت المحامية تأكل فطيرة، وكانت في الخمسين لكنها تملك عينين خضراوتين بإحمرار خفيف في الزاوية الأنسية، وحين تكلم المترجم كانت عيناها تدمعان بسبب الإنهماك في بلع قضمة كبيرة، قال المترجم الذي كان يرتدي قميص أورانج مكتوب عليه بخط كحلي I am sterdam: «كلنا نكذب،» وقصد اللاجئين، لكنه لم يقل، كلكم، وأوضح أنه آشوري من العراق ويعيش في هولندا منذ ٣١ سنة، وأكمل: «كلهم كانوا نائمون حين عبروا الحدود، وكلهم كانوا دائخين في القوارب ولا يتذكرون شيئاً، وكلهم كانوا أبطالاً في الحرب، وفي ذات الوقت هم ضحايا لعدو ما،» وأضاف: «ولا أستثني نفسي، أنا أكذب على القسيس، والقسيس يكذب الله.» قلت له: ما دمت عليماً بكل شيء، الأفضل أن تسجل ما تشاء، وثم قالت له المحامية ف. باور (وهذا اسمها مثلما هو مدون في إضبارتي) شيئاً شبيهاً، لذلك انصرف كلية إلى الكمبيوتر، وبدأ يبربر مع نفسه، يسأل ويجيب بنفسه، وحتى ذلك الوقت كانت المحامية قد جلبت أكياس الشاي مع مكعبات السكر والماء المغلي في أكواب ورقية، وأخذت مكانها مقابلي وقالت بكل الود الذي يمتلكه الهولندي: «أها الآن، أخبرني، ما الذي أتى بك إلى هنا؟» «الندم.» قلت ولم أضف شيئاً سوى أنني لا أعرف عن البلاد شيئاً جديراً بالذكر، فقط أظن أن رامبرانت لم يكن يحيا إلا في الليل، وأن ڤان كوخ كان يرى السماء أينما حدق.
«أقصد أن أعرف…» قالت وسكتتْ، ثم أدارت نفسها في الكرسي دورة، ضحكت ودارت مرة ثانية وظلت تضحك وتدور، وكانت تصغر في العمر كلما دارت، وكلما دارت كانت عيناها الرطبتان تزدادان خضرة، ثم نهضت وقالت: «التفسير الأكثر احتمالا في تاريخ الرسم هو سوء الرؤيا،» وأضافت وهي تلوي لسانها خلف أسنانها العلوية الأمامية وتطلقه صانعة حركة كليك بلسانها كما لو أنها انتصرت: «المسألة طبية بحتة.»
قلت:
«الأمر ببساطة، كنت في محطة بغداد بحلب وتبعت عطر امرأة كانت ترتدي بوطاً أسود على جوارب لحمية طويلة مع تنورة قصيرة، مشت على الرصيف ومشيت وراءها ولم أر نفسي إلا وأنا أقف هنا،»
قالت:«لا تمزح، سأسألك أسئلة دقيقة وننتهي، …»
لا أتذكر ما سألت رغم أن ما حدث كان ظهيرة الأمس لكنني أتذكر أنني لم أتكلم إلا بما كنت أفكر به، قلت:
«حروب كثيرة حدثت وأخرى ستحدث، فلسفات ومذاهب وموديلات ألبسة وطبخات ظهرت لكني على قناعة على أن أهم ما حدث في المئة السنة الأخيرة هو طباعة المسخ عن دار كورت فولف في ١٩١٥، وأنا على قناعة أن غريغور سامسا أنقذ عائلته ليس حتى استيقاظه في ذلك الصباح بل بإنكماشه وراء الباب كيلا يراه الرجال الثلاثة ذوو المعاطف الغريبة وحتى موته لتكتمل نزهة العائلة، وثم كافكا أنقذ غريغور سامسا ولولاه لكان ما يزال يستيقظ مبكراً ليلتحق بالقطارات من مدينة إلى أخرى قبل أن يعود منهكاً إلى غرفته لينام وهو يحفر إطارات غبية من الخشب، ماكس برود أنقذ سمعة الخيانة ليس حينما رأى الوصية السوداء بل قبلها حين زكى التأملات لكورت فولف، وكورت فولف أنقذ المسخ قبل مئة عام بالضبط غير مكتف بالنشر في الأوراق البيضاء ولم يتركه لكافكا ليقول أنه غير مكتمل أو أنه لا بد أن يحرق، طبعه كورت فولف رغم أنه كان قد خسر حين طبع له التأملات، وكان يبتسم ويتذكر تلك الرسالة القصيرة التي أرسلها له كافكا بعد أسابيع من صدورها في ١٩١٢ وب٨٠٠ نسخة فقط:
«إحدى عشرة نسخة عدد ما تم بيعه، عشرة اشتريتها بنفسي وأود أن أعرف المشتري الحادي عشر.»
كان الوقت يمضي، وكانت المحامية خلال ذلك، قد اقتربت بوجهها مني من خلف الطاولة أكثر مما يجب، وبدت ملامحها واضحة: الأنف الصغير المنكسر، الذقن البارزة قليلاً، الشعر غير الجذاب، والجمود العام شيئاً ما، كانت فيليس باور كما وصفها كافكا، فيليس التي خطبها مرتين وفسخ الخطوبة معها مرتين، فيليس التي كتب لها فرانز ذات مرة: «أنت دائماً عند نقطة الزوال تماماً، وأنا عند نقطة إنهاك نفسي بنفسي.»، لم تقاطعني ف. باور حتى أنتهيت، وحينها قامت من وراء الطاولة وسوت تنورتها وثم تنهدت وهي تنظر إلى المترجم الذي كان ما يزال غارقاً في قميصه الأورانج، في الأسئلة والأجوبة، تجاهلته، ونظرت إلى قطعة سماء كانت تظهر من الشباك، كانت قد مضى أكثر من ثلاث ساعات كانت آلكمار هادئة بشكل لايطاق، ثم مشت معي حتى الباب وصافحتني بقوة مودعة وقالت بالهولندية ما ظننته لحظتها أنه لا يعني سوى:
«الترجمة عملٌ عظيم لكن المترجمين سيئون.»